محكي الحياة النسائية
رابط الصفحة :www.mohamed-dahi.net/news.php?action=view&id=12
الكاتب: mdahi


 حرر في الأحد 31-01-2010 05:45 أ£أ“أ‡أپ

1- رحابة فضاء الكتابة عن الذات:
1-1-ديمقراطية الكتابة عن الذات:
تعتبر الكتابة عن الذات ترفا ديمقراطيا يمكن لأي إنسان أن يكتب فيه مستحضرا وقائع من حياته الشخصية. وتسهم دور النشر في دمقرطة هذا الجنس باضطلاعها بالنشر لأشخاص عاشوا تجارب  مثيرة وجذابة. لا تهمها القيمة الفنية لمؤلفاتهم بقدر ما تراهن أساسا على فرادة وقائعها واتسامها بطابع استثنائي. و يمكن أن نمثل في هذا الصدد بمؤلف العشـب الأزرق    (L’herbe bleu) ([3]). وهو خال من أي مؤشرا يثبت هوية مؤلفته التي تحكي عن تجربتها الشخصية في إدمان المخدرات. ورغم أن الكتاب يحتفي بالمادة الحكائية المثيرة أكثر من طريقة سردها وصياغتها في القالب الفني، مازال لحد الآن يحقق أرباحا كبيرة في مبيعاته. كما يمكن أن نحيل إلى ما رواه هنري شريير في مؤلفه الفراشة(Papillon) ([4]) عن ألوان التعذيب والفظاظة التي تعرض لها ومغامرات الفرار من جحيم السجن إثر الحكم عليه بالأعمال الشاقة مدى الحياة رغم أنه بريء من تهمة القتل الملفقة له. وقد حقق هذا المؤلف رقما قياسيا في مبيعاته سنة 1969 إذ وزعت منه سبع ملايين نسخة في مختلف أقطار المعمور. وفي السياق نفسه نورد كتاب أعمال (Travaux) لجورج نافيل Georges Navel الذي حقق نجاحا باهرا في مبيعاته سنة 1948، ثم أعيد طبعه ضمن منشورات ستوك(Stock) سنة 1969 وضمن منشورات فوليو(Folio) سنة1979. ويعرض فيه المؤلف تجربته في ممارسة الأعمال اليدوية، وحبه للطبيعة والحرية والوحدانية، وينتقد الوضع المأساوي الذي تعيش فيه الطبقة العمالية.
واللافت للنظر من خلال هذه الدمقرطة هو " إعطاء الكلمة" للمهمشين (المومسات، مدمنو المخدرات، اللصوص، العمال، المهاجرون السريون..) لسرد مغامراتهم في الحياة بحثا عن الرزق وإثبات الذات، والتدليل على إرادتهم في مواجهة مشاكل الحياة وعراقيلها. وتعززت هذه الدمقرطة نتيجة اكتراث مكونات المجتمع المدني والسياسي بحقوقهم والرغبة في إعادة إدماجهم ليصبحوا فاعلين إيجابيين في بناء المجتمع. فإلى جانب تنافس دور النشر في نشر عينات من تجاربهم المثيرة، أصبحوا، مع مر السنين، يستأثرون باهتمام الرأي العام من خلال الحوارات التي تجرى معهم على أعمدة الصحف([5]) أو عبر التلفاز([6]).
وما يعلل ديمقراطية الكتابة عن الذات أن كل إنسان يجرأ عليها ويجربها مستحضرا فترات من حياته. ويمكن أن يظل ما كتبه من مسودات وخربشات (gribouillis) مهملا في درج ما إلى أن يعاد لها الاعتبار في يوم من الأيام. ويمكن في هذا الصدد أن نشير إلى كتب المصلحة (livres de raison) التي كانت تحبر فيها الأسر الفرنسية بعض الوقائع اليومية. و" كانت مهمتها تكمن في نقل الثقافة العائلية من جيل إلى آخر، والتأريخ لأهم الأحداث التي عاشتها الأسر. فهي مثار أوصاف استثنائية جدا تهم طريقة عيش الناس في عصر ما، وتمكن من  معرفة حياة الأسرة ، ونقل الملكية والحياة المشتركة" ([7]). كما يتضح من هذه القولة فالغاية من كتب المصلحة ليس نشرها لاطلاع القراء على محتوياتها، وإنما تناقل المعلومات والأخبار بين أجيال أسرة واحدة وتقديم  شهادات عن بعض الفترات الحرجة في المجتمع. ونظرا لأهميتها اضطلع ريمي هيس  بنشر ما حبره جده بول هيس لبيان قيمته في الكشف عن الحياة العائلية ومواكبة بعض الأحداث التاريخية([8]).
ويتمثل مقياس نجاح مثل هذا النوع من المؤلفات في مدى إقبال الناس عليها والإعجاب بمنجزات أو مغامرات أصحابها في الحياة (يمكن أن يكونوا معروفين من خلال دورهم في الحياة العمومية (على نحو الساسة والنقابيين ونشطاء الجمعيات الاجتماعية والحقوقية) أو تألقهم في مجال معين (على نحو الرياضة). وبالمقابل يمكن أن يكونوا مغمورين فتعمل مؤلفاتهم على التعريف بتجاربهم الاستثنائية، والإسهام في شهرتهم داخل المجتمع.
تطرح مثل هذه المؤلفات مشاكل عديدة تتمثل أساسا في تعامل النقاد معها كما لو كانت اللانصوص non-textes، وإبعادها من صلب اهتماماتهم بدعوى ضعف مستواها الأدبي، وصعوبة تحديد جنسيتها  وإثبات منزلتها وقيمتها الأدبيتين. وما يزيد في التباسها أن الناشرين يصنفونها ضمن منشورات خاصة (على نحو شهادات، اشهد، كبار الصحافيين، مباشرة، وثائق معيشة، المعيش) فيوهمون  بأنها تتضمن أحداثا مطابقة للواقع أي أن علاقتها بالواقع مبنية على المشابهة وليس الإنتاج. ويدعم مؤلفوها هذا الطرح بدفاعهم الملح ،في الحوارات التي تجرى معهم، على كون ما سردوه يطابق تماما ما عاشوه فعلا([9]). وكثيرا ما يتألمون و يبكون وهم يستحضرون التجارب المريرة التي ذاقوا فيها حنظل الحياة. وتتجاوب معهم فئة عريضة من المتلقين بدعوى أن ما يتلقفوه هو من صلب الواقع المعيش وليس كذبا أو خيالا.
ويصنف فليب لوجون ([10]) هذه المؤلفات إلى ما يلي:
أ- شهادات التشهير التي يفضح فيها أصحابها حيف وقسوة بعض الأنظمة السياسية التي استغلت  أعمالهم أو زجت بهم في السجون أو نفتهم خارج أوطانهم.
ب-محكيات الحرب والمقاومة (تقرأ كما لو كانت ملاحم أو روايات المغامرات أو روايات بوليسية).
ج- محكيات الانتهاكات الجسدية أو الجنسية
د-محكيات المنجزات الرياضية والأخلاقية التي تقترح نماذج بطولية للاقتداء بها.
ه-سيرذاتية لأشخاص حققوا مستوى معين من المجد (يشعرون بأن لديهم "دينا كريزماتيا" ينبغي رده للجمهور، ويستثمرونه لبيع حيواتهم رغبة منهم في إعادة الاعتبار لذواتهم).
و-محكيات المغامرات الغريبة.
ز- شهادات منقولة  بآلة التسجيل (عمال متقاعدون أو قرويات مسنات).
1-2-محكي الحياة:
في أي خانة يمكن  أن نصنف هذه الكتابة غير الاحترافية التي تكون في متناول الناس جميعهم على اختلاف مستوياتهم الثقافية ، وذلك للتعبير عن تجاربهم المثيرة؟ اقترح فليب لوجون إدراجها ضمن محكي الحياة (أو الوثيقة المعيشة Document vécu) الذي ميزه عن السيرة الذاتية في ما يلي([11]):
أ-التبئير: تحيل الأخبار مباشرة على تجربة  السارد في حينها دون الاهتمام بما سبق أو سيأتي. إن المعيش هو نقيض  الشهادة المسترجعة، بحيث يراهن-من خلاله- السارد على جعل القارئ  يعيش الأحداث المحكية " مباشرة".
ب-المسافة: يعرض السارد ما أمكن أكثر مما يحكي. وهذا ما يجعل تقنيات معينة تهيمن أكثر من غيرها، وذلك على نحو الحوار (نقل الحدث حيا ومباشرا) والحوار الداخلي (تشخيص الإحساسات والمدارك والمواقف بطريقة مباشرة).
ج- الشهادة: تسند لهذه الشهادة مهمة الإخبار وإثارة الغيظ  والشفقة ، وتدعو إلى التمرد. ليس هدفها اقتراح حل أو شرح. ينبغي لها أن تخلق حالة من الإحساس وليس تنظيرا أو تلقينا مذهبيا.
د-محكي التشهير: يثير هذا التشهير لدى القارئ ردود فعل الامتعاض من ضروب الحيف  والقسوة  والحماقة المرتبطة بالمؤسسة.
تنقسم محكيات الحياة الصادرة مؤخرا في المغرب إلى ما يلي:
أ-تخلو أغلفة بعضها من أي مؤشر يبين نوعها وجنسها. لكن يشار إليه في التصدير أو ظهر الغلاف. أثبت الناشر في ظهر غلاف فلا تنس الله ([12]) مقطعا حكائيا تظهر فيه المؤلفة أن ما حكته هو " قصة واقعية" عاشت أطوارها في صراع بين المرض والإيمان. ونجد في ظهر غلاف كتاب حديث العتمة ([13]) كلمة مقتضبة ليوسف مداد يبين فيها أن ما كتبته فاطنة البيه هو شهادة استعادت فيه الذكريات المتعلقة باختطافها وتعذيبها لخمس سنوات. وتعزز فاطمة الزهراء أزرويل محتوى هذه القولة معتبرة الكتاب  شهادة/ إدانة تكشف عن معاناة المعتقلة في السجن من شتى أصناف العنف والحرمان، وتفضح الواقع المزري والفظيع لسجينات الحق العام. ويمكن أن تنسحب الملاحظة نفسها على عينة أخرى من الكتب([14]). فهي تتضمن بعض الإشارات التي تصنفها ضمن الشهادات.
ب-تتضمن  أغلفة بعض الكتب على مؤشرات تثبت انتماءها الجنسي إلى الشهادة. ففي غرة كتاب مزريا([15]) أثبتت الشهادات بصيغة الجمع([16]). في حين وردت بصيغة المفرد في كتاب  لقطات مختارة من كتاب القمع وفي كتاب أشعار-كتابات-رسائل السجن([17]).
ج- وصنفت عينة أخرى من الكتب  ضمن الرواية([18]) أو السيرة الذاتية([19]) أو القصة([20]).
مما تقدم يتضح أن الشهادة هي التسمية المهيمنة. ويعنى بها،من خلال السياقات التي وردت فيها، اضطلاع السارد باستعادة وقائع من حياته الشخصية كما عاشها فعلا. وهكذا يتبين أنه يراهن أساسا على البوح بما تستضمره طويته من حقائق وأسرار واستيهامات. ووردت التسميات المتبقية لطرح إشكالية الكتابة عن الذات من زوايا مختلفة. تفيد تسمية السيرة الذاتية مدى الإصرار على المحافظة على مكونات الميثاق السيرذاتي (وخاصة ما يتعلق بتعاقد المرسل والمرسل إليه حول التعيين الجنسي للكتاب). في حين تشكك تسمية الرواية في صحة الأحداث المروية، وتثير أسئلة وجودية حول مسألة الصدق في أي مشروع كتابي يتعلق بالذات. وما حفز الناشر والمساعدة(nègre) على تصنيف مؤلف السجينة ضمن الجنس الروائي هو تدخل وساطة بين المادة الحكائية الخام وتلقيها من طرف القراء المفترضين.
وتركز تسمية القصة على القدرة الحكائية التي يتمتع بها الشخص في تذكر تجاربه الشخصية ونقلها إلى الآخرين بطريقة جذابة ، وإثبات جدارته في العيش الكريم واسترجاع إنسانيته وشرعيته المفتقدتين. وفي هذا المضمار، ما يهم أساسا هو توفر السارد على المادة الحكائية الخام وقدرته على سردها بأي شكل من الأشكال([21]). وبعد ذلك يأتي دور الوسيط (أكان ظاهرا أم خفيا) لإدخال التعديلات والتحسينات المناسبة عليها حتى  تغدو قابلة للنشر ومستوفية لشروطه الدنيا.
بالجملة، يقترن محكي الحياة  بالشهادة لكون أصحابها-إلى جانب المميزات التي ذكرها فليب لوجون- يراهنون على خلق الانطباع بالواقع (الحقيقة والصدق والمطابقة)، وإثبات قدراتهم على استجماع الذكريات والحكي المباشر. تعي ميشيل فيتوسي-لكونها تنتمي إلى الأدب الاحترافي- بصعوبة نقل الحقيقة كما هي إذ تتدخل عوامل وعناصر كثيرة تحول دون ذلك. وبموجبه لا تخلو الشهادة من ألاعيب التمويه و الزعم والتباهي. وينضاف محكي الحياة إلى كثير من المكونات التي تندرج في إطار الأدب الشخصي. ومن ضمنها نذكر أساسا اليوميات والمذكرات والسيرة الذاتية والمدونة الالكترونية (Le blogue) والخواطر والرسائل الورقية والالكترونية.
1-3-الكتابة تحت الطلب:
يرى فليب لوجون" أن اضطلاع الفرد بالكتابة عن  حياته الشخصية ونشرها كانا امتيازا يحظى  به أفراد الطبقات السائدة. إن " صمت" الآخرين كان يبدو طبيعيا: لا تمت السيرة الذاتية بأية صلة إلى ثقافة الفقراء"([22]). وقد مكن اكتشاف المسجلة الفئات الدنيا والمهمشة (العمال والحرفيون والمومسات والباعة المتجولون..) من التحدث عن ذواتهم. لقد أعطى لهم الصحافيون والناشرون الكلمة للتعبير عن تجاربهم المثيرة في الحياة، والصدع بمعاناتهم وتطلعاتهم. وبقدر إقبال الجمهور العريض على هذا النوع من الكتابة بقدر ما تزايد اهتمام دون النشر بها وترويجها لكونها تدر عليها الأرباح المتوخاة ([23]). وهكذا أصبح الناس الذين عاشوا تجارب مثيرة أو تألقوا في مجال معين يستأثرون باهتمام الرأي العام ويحظون بعناية خاصة من طرف الصحافيين والناشرين لحفزهم على التحدث عن ذواتهم. ومن بين العوامل التي ساعدت على انتعاش هذا النوع من الكتابة تحت الطلب في فرنسا هو ما يلي:
ا-اضطلاع علماء الاجتماع بتطبيق المنهاجية الاثنوغرافية على الفئات المستضعفة.
ب-نشر الترجمة الفرنسية  لأطفال سانشيز(Enfants de Sanchez) (1963) لأوسكار لويس الذي وظف تقنية تسجيل حياة أفراد بأصواتهم الشخصية، ثم اضطلع بطبعها في الكتب  ليطلع عليها القراء في حلتها الجديدة([24]).
يمكن أن نجمل ما شجع على تنامي هذه الظاهرة في المغرب خلال العقود الأخيرة في ما يلي:
أ-اتساع هامش الحريات العامة ورغبة أغلب مكونات المجتمع في طي صفحة الماضي على قاعدة " الإنصاف والمصالحة" والتوجه نحو المستقبل لبناء المغرب الحديث.
ب-تطور الحقل الصحفي وتطلعه إلى الأداء الاحترافي. وهذا ما أدى إلى انتعاش الكتابة عن الذات لكونها تكشف عن الانتهاكات الجسدية والنفسية التي تعرض لها بعض المواطنين، وتضئ بعض الجوانب الداجية والملتبسة في الحياة الاجتماعية والسياسية المغربية المعاصرة([25]). ونظرا للنجاح الذي حققته بعض محكيات الحياة، المنشورة في شكل حلقات على أعمدة الصحف السيارة، فقد تحولت، فيما بعد، إلى كتب لتمكين القارئ من قراءة محتوياتها مجموعة والاحتفاظ بها للعودة إليها عند الضرورة والاقتضاء.
ج- تنامي ظاهرة مكاشفة الذات الجمعية ومحاسبتها لمعرفة بعض الملابسات التاريخية والدسائس السياسية. وهو ما أدى إلى انتعاش محكي الحياة لتبرئة الذات من التهم الموجهة لها من طرف الخصوم ورد الاعتبار لها بالنبش في الذاكرة لمحاجتهم بالحقائق والأدلة المناسبة.
واتخذت الكتابة عن الذات الأشكال الآتية:
أ-حوارات سيرذاتية: يقوم بعض الصحافيين باستجواب شخصيات تستأثر باهتمام الرأي العام للتعرف على أطوار حياتها ومواقفها من بعض الأحداث التاريخية والسياسية الحساسة.
ب- سيرة ذاتية بالنيابة: يستجمع المساعد أطوار شخص آخر مستعينا بالمسجلة. وبعد ذلك يعمل على تفريغ محتوياتها، و إدخال التعديلات عليها دون المساس بأصالتها وتلقائيتها، ونشرها في شكل حلقات متتالية على أعمدة الصحافة أو في كتاب. ولا تقتصر مهمة المساعد على تحرير المرويات الشفهية ونشرها بل يستدرج السارد ، من خلال توجيهاته وأسئلته وملاحظاته، إلى الاضطلاع بفعل الحكي واستجماع شتات تجاربه وخيوطها المعقدة والمتشابكة.
ج-شهادات شفهية:  اضطلعت دار النشر الفنك على تكوين محترف الكتابة عن الذات لحفز الأشخاص على التحدث عن تجاربهم بحرية وطلاقة ([26]). وقد استدعت منشطة هذا المحترف فاطمة المرنيسي باستدعاء معتقلات سياسيات لسرد معاناتهن في السجن أو ناشطات حقوقيات للتحدث عن أسر المعتقلين وما تعرضت له من ضروب التنكيل والمضايقات. ومن خلال شهادة حليمة زين العابدين يتضح أن فاطمة المرنيسي كانت تبحث عن ساردات يمتلكن قدرات حكائية لنقل الوقائع المتعلقة بظاهرة الاعتقال السياسي بالمغرب. ولهذا الغرض اقترحت سنة 1980 على ثلة من زوجات المعتقلين  إنشاء محترف للكتابة عن تجربة عائلات المعتقلين في بيتها. وكانت تستعين بمسجلة لتخزين مروياتهن ([27]) ثم نقلها إلى الأثر المكتوب (La  trace écrite).

د-شهادة مكتوبة: تتلقى مختلف دور النشر كثير من محكيات الحياة. لكنها تهمل في الرفوف نظرا لمستواها اللغوي المتواضع جدا ." إن المغامرة أو البؤس أو الحيف الأكثر فظاظة لا يخلق بالضرورة كتابا جيدا، وإنما يجب معرفة كتابته ، بمعنى التوفر على موهبة نادرة  تجعل القارئ يرى ويحس ويعيش داخليا (كما لو كان حاضرا في عين المكان) ما رآه وأحس به وعاشه عن كثب"([28]). وهكذا يشترط الناشرون توفر الشاهد على حد أدنى من المستوى اللغوي لتسويد مغامراته وتجاربه باللغة التي يرتاح لها شريطة أن تكون واضحة ومفهومة. وبعد ذلك يوكلون مساعدين  لإدخال التعديلات الضرورية والملحة عليها حتى تصبح مادة قابلة للنشر ومستجيبة لتوقعات الجمهور. ونظرا لأنانية الفرد فهو غالبا ما يتجنب ذكر من ساعده متباهيا بأن ما كتبه كان ثمرة عمل شخصي كلفه وقتا ثمينا ومجهودا جبارا. ومع ذلك نجد، من الفينة إلى الأخرى، من يتواضع معترفا بما أسداه له الآخرون من خدمات لتحرير تجاربه وتدارك مواطن قصورها واضطرابها([29]).
1-4-الكتابة النسائية عن الذات:
من تجليات دمقرطة الكتابة عن الذات أن دائرتها اتسعت لتستقطب الإبداعات النسائية التي كان ، فيما مضى ، يُنظر إليها بازدراء واستخفاف. فهي، لبواعث سياسية واجتماعية، لم تبق حكرا على الرجل  بل أصبحت، مع مر السنين، نصيبا مشتركا يتقاسمه الجنسان للكشف عن الهوية البشرية وسريرتها. واستطاعت المرأة، بفضل قدراتها الحكائية واللغوية، أن تفرض نفسها في مجال الأدب بصفة عامة وفي مجال الكتابة عن الذات بصفة خاصة. ومن بين الكاتبات اللواتي تألقن في  المجال السيرذاتي نذكر على سبيل المثل لا الحصر: مارغريت دوراس (العاشق)، وكوليت (تعلماتي) ، وسيدتي رولاند(مذكرات)، وسيمون ديبوفوار (الجنس الثاني و ثورة الأشياء)، وجورج صاند (أعمال سيرذاتية  تاريخ حياتي)، نوال السعداوي (أوراق حياتي)، فدوى طوقان (رحلة صعبة: رحلة جبلية، ثم الرحلة الأصعب)، ليلى أبوزيد (رجوع إلى الطفولة)، لطيفة الزيات (أوراق شخصية).
" لقد كانت النساء مبعدات من المشهد العمومي.إلى حد قريب كان يعنى بصفة العمومي، المقترنة بالمرأة، المومسات.فأن تضطلع المرأة بنشر كتاباتها والتحدث عن نفسها هو خرق للمحظور Tabou"([30]). يتضح من خلال هذا القول أن أصعب رهان واجهته المرأة هو إعطاؤها الكلمة للتحدث عن ذاتها دون قيد أو شرط. فالكتابة عن الذات كانت تعد ضربا من المحظورات التي تنهى المرأة ، بحكم النظرة الأخلاقية الضيقة، عن البوح بأسرارها وتجاربها الشخصية إلى الغير. وهذا ما عانت منه المرأة  خلال تنشئتها الاجتماعية ، وجعلها تتخوف من اطلاع أفراد أسرتها على ما سودته من كتابات شخصية. ولما تحس بخطر يداهمها تعمل على تمزيقها وإتلافها. ونظرا لمثل هذه التوجسات فهي تعتبر الكتابة عن الذات امتحانا صعبا وفعلا جريئا في الآن نفسه، و تبحث عن " منطقة الصمت  حولها وداخلها"([31]) لاسترجاع تجاربها وذكرياتها بعيدا عن صنوف المراقبة والمضايقة والصخب. ورغم ما تحقق من تراكمات في مجال الكتابة النسائية عن الذات وتغير النظرة الاجتماعية إلى المرأة ، فهي ما زالت تتوجس من " قول كل شيء أو قول أشياء كثيرة بطريقة مباشرة" ([32]). ويعزى ذلك إلى حرصها على الكتمان (la discrétion) والحشمة (la pudeur ) مراعاة لعقيلة المجتمع وطبيعته التي مازالت تتحكم فيه النزعة الذكورية، وتجنبا للنعوت المستبشعة التي يمكن أن توجه لها شخصيا.
إن مثل هذه الاعتبارات دفعت  المرأة إلى الكتابة باسم مستعار. وهذا ما تشخصه حالة سيدتي دودفان (Dudevant) وكونتسة أكولت (Comtesse d'Agoult) اللتان أجبرهما الطلاق على عدم الانتساب إلى الاسم العائلي لزوجيهما. فاختارتا اسمين مستعارين لذكرين. وهي عادة كانت سائدة في القرن التاسع عشر لاستدفاع الأحكام المسبقة عن الكتابة النسائية وإثبات مكانتها وقيمتها في الساحة الأدبية. فالأولى تبنت اسم جورج  صاند   (George Sand)والثانية اختارت اسم دانيا ستيرن(Daniel Stern). وفي السياق نفسه اختارت مرغريت اسم يورسنار(Yourcenar) المتجانس مع اسمها العائلي الحقيقي كراينكور(Crayencour). وبعد الطلاق الأول والثاني قررت كوليت (Colette) أن تقتصر على هذا الاسم المعروف، معتبرة إياه جامعا بين الاسم الشخصي والاسم العائلي([33]). من خلال هذه الحالات يتضح أن المرأة لا تستعمل اسما مستعارا للتنكر وإنما لبناء هوية جديدة ([34])، قوامها عدم الانتساب إلى "الزوج الذي يعتبر عائقا للإبداعية الروحية" ([35])، وترسيخ الاسم الجديد بوصفه سلطة تستحق الاعتراف به عن جدارة واستحقاق.
نلاحظ ، خلال العقود الأخيرة، رغبة المرأة المغربية في اقتحام الحياة العمومية للتمتع بحقوقها المدنية والسياسية. ولم تنل بعضا من مكتسباتها المشروعة إلا بفضل النضال المستميت  الذي دام سنوات طويلة ،على مختلف الواجهات  الإعلامية والحزبية والجمعوية. وتعزز دخول المرأة إلى الحياة العمومية بالعزم على تحطيم المحظورات الاجتماعية والتحرر من أشكال الحجر و الوصاية، وبتنامي الرغبة في الكتابة عن الذات لفضح المعاناة من شتى ضروب الحيف والعسف والتهميش. لقد كانت الكتابة النسائية عن الذات ، في البداية، محتشمة وخجولة لا تقتصر إلا على الصدمات الاجتماعية (المرض، الطلاق، الإعاقة، ووفاة أحد أفراد الأسرة) التي تعرضت لها المرأة وحثتها على الكتابة لإبراز انعكاساتها السلبية على نفسيتها وجسمها ووضعها الاجتماعي. لكن نتيجة اتساع الهامش الديمقراطي وتحسن الأداء الاحترافي للصحافيين انخرطت المرأة في الكتابة عن الذات لإبراز ما عانته من شتى ألوان التعذيب والقمع في سبيل تحقيق مجتمع عادل والعيش الكريم، ومحاكمة فترة قاتمة من تاريخ المغرب جردتها من أنوثتها وإنسانيتها وأخرست  صوتها حتى لا تعبر عن آلامها وآمالها.
لما نتحدث عن الكتابة النسائية نفترض مسبقا أنها متميزة عن الكتابة الرجالية. وفي هذا الصدد تحذر بياتريس ديديي (Béatrice Didier) من مغبة وضع تمييز عنصري بين الكتابة النسائية والكتابة الرجالية. إن خصوصية الكتابة النسائية لا تستبعد وجود أوجه الشبه بينها والكتابة الرجالية. كما يمكن للجنسية المزدوجة(bisexualité) المستضمرة في الفنان (دون إثارة الجنسية المثلية) أن تفضي، باستمرار، إلى إيجاد  موضوعات نسائية خالصة في كتابة رجل والعكس صحيح ([36]). ولقد حاولت كثير من الأبحاث([37]) إثبات المميزات العامة التي تسم الكتابة النسائية، وهي  في مجملها، تتفق  في الموضوعات الآتية:
-الاهتمام بالجسد (إبراز مظاهر القبح أو الجمال في الجسد، العناية بوصف الملابس).
- استحضار صورة الأم (الاكتراث بعلاقة الساردة بوالدتها، والاحتفاء بعودتها إلى الجنة الأولى (الأم).
- الهوية الجنسية (مساءلة الانتماء الجنسي، وإظهار المميزات الفزيولوجية).
- استرجاع الطفولة(يتذكر الرجال الطفولة بوصفها أحداثا  وقعت في حين تجد فيها النساء من جديد ما لم يتوقف عن الوجود).
2-وشم الجسد والروح في حديث العتمة ([38]).
2-1-تجربة الاعتقال:
يبدأ الحكي باختطاف الساردة (فاطنة البيه) من منزل أحد رفاقها في حي المحيط (الرباط)، والزج بها في السجن لكونها ، في نظر المحققين، عنصرا خطيرا.ثم تنثال تباعا صور التعذيب الجسدي والنفسي لثني عزيمتها وانتزاع الاعترافات منها ل" طبخ" ملف  لمحاكمتها بطريقة  صورية. ويدور المحكي، في مجمله، عن حملة الاعتقال السياسي التي طالت كثيرا من مناضلي اليسار المغربي بتهمة زعزعة النظام والتآمر على رموز السيادة الوطنية. وكان الهدف منها  ترهيب الناس وردعهم ،والحيلولة دون ممارستهم للسياسة لكونها تفضي بأصحابها إلى السجن. كانت فاطنة البيه ضحية هذه الحملة المتعسفة، وأدت ثمنها متحملة قسوتها وجبروتها طيلة خمس سنوات (1977-1982).
قضت الساردة  تسعة أشهر  مختطفة دون أن يعرف لها أثر. كانت في عداد المفقودين أو الموتى. وهي أصعب مرحلة عاشتها الساردة داخل السجن متحملة مختلف ألوان التعذيب للتحقيق معها في التهم الموجهة لها ومجردة من أبسط حقوقها في الزيارة العائلية، والقراءة، والتعبير عن آرائها ومطالبها المشروعة.
حكم عليها بخمس سنوات سجنا نافذا بعد أن قضت ثلاث سنوات دون محاكمة. واستطاعت، صحبة المعتقلات السياسيات، أن تنتزع بعضا من مطالبها المشروعة بفضل سلسلة من الإضرابات عن الطعام والاحتجاجات. وهذا ما خول لها أن تبدد هول العزلة، وتنعم طيلة النهار بالفسحة في الساحة المسيجة، وتتابع دراستها، وتواكب ما يجري في العالم الخارجي، وتتحدث مع أفراد أسرتها عبر شباكين حديديين لمدة عشر دقائق كل أسبوع.
ركزت الساردة على تجربة الاعتقال السياسي التي ذاقت فيها ألوان العذاب، وعاشتها بإحساساتها المرهفة، وتعاملت مها بجلد ومقاومة لإثبات أنوثتها وإنسانيتها وحقها في الوجود والعيش الكريم. ولم تول أهمية إلى تجارب أخرى من تاريخها الشخصي لكونها سعت –أسوة بالمعتقلين الذين كتبوا عن ذواتهم- إلى تقديم شهادتها عن ظاهرة الاعتقال السياسي بالمغرب خلال " سنوات الجمر والرصاص"، وذلك للكشف عما عانته من ألوان التعذيب الجسدي والنفسي دون احترام أدنى حقوقها الإنسانية وضمان محاكمة عادلة للتحقق من التهم الموجهة لها. وقد وردت شهادتها في شكل محكيات متشظية مرقمة أو معنونة، راصدة معاناتها النفسية ، وأمراضها المزمنة، وأحلامها المحبطة، وتطلعاتها الهاربة خلال الفترة التي قضتها في غيهب السجن. وأردفت شهادتها بشهادتي معتقلتين تقاسمتا معها محنة السجن (وداد البواب ولطيفة أجبابدي) وبرسالة، مؤرخة في 16 أبريل 1982، توصلت بها من   مصطفى أنفلوس المعتقل بالسجن المركزي بالقنيطرة. وإذا كانت هذه المحكيات-من جهة- تملأ ثقوب الذاكرة، وتتدارك بعض الوقائع المغفلة أو المنسية، وتشهد على قسوة الاعتقال وحيفه وفظاعته، فـهي  -من جهة أخرى- تؤكد مدى نسبية الحقيقة في نقل بعض الوقائع وتعميم أحكام عليها. ونذكر منها ،على سبيل المثال لا الحصر، تعامل الحارسات مع المعتقلات. فإذا كانت فاطنة البويه تنعتهم بالقاسيات والفظات ، فإن لطيفة أجبابدي تذكر تعاطفهن ،أحيانا، مع المعتقلات السياسيات، ورقة قلوبهن في بعض المشاهد المحزنة.
وإن كانت الساردة (فاطنة البيه) تحرص ، في المقام، الأول على المدلول الحكائي للمراهنة على إثارة المتلقي، وخلق الانطباع بالواقع لديه، فإن محكياتها لا تخلو أحيانا من بعض القبسات الإيحائية التي حاولت من خلالها، رغم محدوديتها وبهوتها، أن تنزاح عن الواقع، وتخلق مسافة مع التجربة المروية، لتتوهم صورا عن ذاتها، وتسخر من عبثية الأقدار، وتتجاوز متناقضات الواقع بالحلم.
2-2-شخوص الظلام:
يمكن أن تصنف شخوص الشهادة إلى أربع دوائر:
أ-دائرة الجلادين:
تحيل أسماؤهم إلى فترة حالكة من تاريخ المغرب اتسمت باختطاف المعارضين وتعذيبهم جسديا ونفسيا. وما حز في نفسية فاطنة البيه أن تلتقي بأشهرهم (اليوسفي قدور)  بعد الإفراج عنها بسنوات إما بوصفه مشاركا في تظاهرة نسائية سنة 2000 أو مراقبا أمنيا يتتبع ما يجري في جلسة الاستماع التي استدعت لها هيئة الإنصاف والمصالحة المعتقلين وبعض أفراد عائلاتهم(سنة 2004) للإدلاء بشهاداتهم حول ملابسات " سنوات الجمر والرصاص" وانعكاساتها السلبية على أحوالهم الصحية والاجتماعية والنفسية. وتقول فاطنة معلقة على التقائها به مرتين."  إن رؤيته، بالنسبة لي، تغرقني من جديد في مغارة لا نهاية لها. هو الذي اعتقلني سنة 1977. وكان يتنقل من الرباط إلى البيضاء لكونه كان متخصصا في تعذيبي بالسجن المعروف بدرب مولاي الشريف. كيف يمكن لي أن أستسيغ الالتقاء به من "جديد في مغرب يسعى إلى التصالح مع ماضيه"([39]).
وكان مجبرا على المعتقلين مناداة الجلادين بالحجاج إما بهدف إخفاء هويتهم أو تقديرهم وتوقيرهم. يتعرف المعتقلون على أسماء مجلديهم من خلال استراق السمع إلى أحاديثهم أو انفلات أسمائهم من أفواههم سهوا أو تمييزهم  حسب روائحهم وأشكال أحذيتهم وطرقهم في التعذيب " كانوا في كل مرة قبل " التعليق" " التعلاق" يحكمون شد خرقة الثوب التي تمنعني من التعرف عليهم، وكم كان بودي أن أعفيهم من ذلك، لقد تعلمت التعرف عليهم من روائحهم وأشكال أحذيتهم، بل إن رسوم الأصابع التي تخلفها صفعاتهم، حين أمر بيدي أتحسسها وأسجل الإهانة، أميز يد اليوسفي ويد عبد اللطيف، ويد الجمل ويد الأيوبي وغيرهم.." ص 18. وإن امتنع المعتقل عن مناداة الجلاد بالحاج فسيتعرض للإهانة و الصفع وعدم الاستجابة لطلباته البسيطة.
ويندرج في هذه الدائرة مدير السجن والمحققون والحارسات. وهي تستوعب شتى ألوان التعذيب والتنكيل التي كانت تمارس على المعتقل السياسي لإرغامه على التخلي عن معتقداته، وانتزاع الاعترافات منه قسرا، وتنحيته من الوجود لكونه يشكل " خطرا" على أمن الدولة واستقرارها." كان الشعور بالمنفى قويا. حين قال لي الكومسير: " راني نمحيك"" ص21.
ب-دائرة المعتقلات:
وإن كانت الساردة تتخيل، من فينة إلى أخرى، ما يقع في حي الذكور من قمع وتنكيل، فهي تركز خصوصا على حي الإناث لبيان معاناة المعتقلات السياسيات من مختلف ألوان التعذيب النفسي والجسدي الذي راحت ضحيته المعتقلة السياسية سعيدة المنبهي. ورغم الحواجز الإسمنتية والظلام الدامس استطاعت المعتقلات أن يتواصلن فيما بينهن ويتعرفن على بعضهن البعض. وقد نسجت فاطنة البيه مع بعضهن صداقات بحكم اقتسامهن الزنزانة نفسها (وداد البواب ، ولطيفة أجبابدي، وبودا انكية). وبعد إطلاق سراح المعتقلتين الأوليين، أصرت فاطنة البيه على اقتسام  الزنزانة مع المعتقلة الأخيرة لتبديد هول العزلة، وإيجاد مخاطبة لتجاذب أطراف الحديث ، ونيل مساعدة عند اشتداد المرض. وتجرد المعتقلة من هويتها إذ ينادى عليها باسم ذكر أو يتعامل معها كرقم. ومن بين أساليب التعذيب التي تعرضت لها نذكر أساسا: الطائرة، والصعق الكهربائي، والفلقة، وعصب العينين، والصفع، والشتم، واللكم، والركل.. ولم تسلم من أساليب التحرش الجنسي التي غالبا ما يتحدث عنها باحتشام ومواراة. أشارت فاطنة البيه إلى تعرض معتقلة إلى التحرش الجنسي وهو ما أثار حفيظة المعتقلات ورد فعلهم لاستنكاره في شكل صرخات مدوية " لقد حدث مرة في شهر رمضان، أن تعرضت إحدى الرفيقات للتحرش الجنسي.. ولكن رغم العنف والسلطة المتمكنة من أجسادنا، لا من أرواحنا، استطعنا تكسير جدران الصمت المفروض والحراسة المشددة، واستنكار فعله المجرم الحقير. لقد صرخنا عاليا. وكانت ليلة مشهودة، لعل جدران ذلك المعتقل تعرف في تاريخها  أول أصوات الاحتجاج. والعجيب في الأمر أنها أصوات نساء. سلحت نفسي وجندت كل قدراتي للدفاع عن النفس" ص23.
ج-دائرة الزوار:
تعتقد عائلات المعتقلين أنهم أصبحوا- بعد اختطافهم-  في عداد الموتى أو المفقودين. لا تستطيع أن تهتدي إلى أثرهم إلا بعد سنوات طويلة من البحث والانتظار. ولما يسمح لأفراد العائلة بزيارة المعتقل يقطعون مسافات  طويلة من أجل التحدث معه عبر شباكين حديديين، وفي وقت قصير لا يتعدى عشر دقائق من كل أسبوع. ويتطلع المعتقل إلى معرفة أحوال الأسرة، وإلى ما تحويه" القفة"([40]) من مأكولات حرم منها مدة طويلة. و تحت ضغط التوقيت وصياح الزوار لا تحقق الزيارة متعة الحياة العائلية الحقيقة وهذا ما يسبب للمعتقل والزائر إحباطا نفسيا على حد سواء.
ويمكن أن ندرج في هذه الدائرة المفتشين الذين يزورون السجن من فينة إلى أخرى لتفقد أحواله واستجماع شكاوى المعتقلين وأضرارهم. لكن نتيجة تفاقم ظاهرة المخبرين وتنكرهم في صور متعددة، فإن المعتقل يحترس من مصارحة المفتشين والبوح لهم ببعض التجاوزات والخروق. ترتاب فاطنة البيه منهم لكونهم لا يختلفون عن المحققين الذين عذبوها عذابا مبرحا وألصقوا تهما مجحفة في حقها للنيل من كرامتها وتشويه سمعتها." المفتش، لا يختلف في شيء عن رجال البوليس .. لا توحي هيئته بأي شيء غير الإرهاب، رغم الهدوء المتصنع الذي كان باديا عليه" ص69." وجوه جديدة من اللجنة، مفتش " خفيف الظل" لم يكن لديه طلاء يخفي به صفته القمعية.. عدنا إلى السكون.."ص74. ومع ذلك لما تشعر بأنها أهينت في كرامتها فهي تثور على أساليب المجاملة والاحترام المصطنعة ، وتحتج بكل ما أوتيت من قوة لنيل مطالبها المشروعة وتعزيز مكتسباتها المنتزعة.
د-دائرة المعتقلات السياسيات:
تعيش المعتقلات في ظروف صعبة وقاسية جدا وهن محرومات من أدنى الشروط الإنسانية. فأي احتجاج منهن إلا ويقابل برد فعل قوي من طرف إدارة السجن. وفي حالة تمادي إحداهن في الاحتجاج توضع في زنزانة العقوبة دون أكل ولا ملبس. وما استرعى انتباه المعتقلات السياسيات هو ولادة أطفال في السجن أو مرافقة أمهاتهم السجينات. فهم يعيشون في السجن دون أن تصدر في حقهم أية عقوبة، ولا يتمتعون بأدنى الحقوق التي تكفل لهم العناية الصحية والتعلم واللعب. وتتعاطف المعتقلات السياسيات مع معتقلات الحق العام بتزيدهم بالأدوية والأغذية، وبدروس التوعية الصحية ومحاربة الأمية. ولم يكن في مستطاعهن أن يساندنهن في محنهن لرفع أشكال الضيم والاستغلال والعسف عنهن، وتحسين وضعيتهن لتيسير إعادة إدماجهن في الحياة العملية. " لكن أية سلطة نمتلكها لتغيير واقع معتقلات الحق العام سوى ما نستطيع إمدادهن به من أدوية، أو مساعدة مادية، أو محاربة أمية أو توعية صحية وغيرها" ص79.
2-3-لغة السجن:
إن ظروف الاعتقال  حتمت على فاطنة التحدث بلغة سيميائية هجينة خاصة بالسجناء للتفاهم والتواصل معهم. ومن معجميات هذه اللغة نذكر أساسا ما يلي: لابيل، السربيس، لافوي، احترام، لاكلاص، القفة، بارلوار. تستتبع كل معجمية مسارا حكائيا نمطيا، وتستدعي متوالية من الأحداث الجاهزة. وهكذا فكلما تناهت إلى سمع السجين معجمية الاحترام إلا وعلم بقدوم "شخصية  سامية" ينبغي الوقوف إجلالا وتوقيرا لها، وتجنب ما يمكن أن يثير حفيظتها وغضبها. وكلما انتشر خبر " لا فوي" إلا وارتعدت فرائصه خوفا من عثور المفتشين على بعض الممنوعات في زنزانته. كما تخفي الحارسات ما ابتززنه من السجناء في قمامات النفايات إلى حين التأكد من انصراف المفتشين من السجن. فمثل هذه المُعجميّات تثير استجابات سلوكية في ذهن السجين. ويظل مفعولها في نفسيته وسلوكه بعد سنوات عديدة من الإفراج عنه.
ويمكن تصنيف المعجميات المتلفظ بها إلى خطابين (خطاب الجلادين وخطاب المعتقل السياسي): أولهما يستهدف ترهيب المعتقل السياسي وتنحيته من الوجود لكونه يشكل خطرا على أمن الدولة واستقرارها. ويستند هذا الخطاب أساسا إلى أساليب الشتم والتعنيف بالعامية المغربية للنيل من كرامة المعتقل السياسي والحط من معنوياته وتشويه سمعته. وثانيهما يدافع عن حقوق المعتقلين في الوجود والعيش الكريم، ويبين مقاومتهم وصمودهم في مواجهة مختلف أصناف التعذيب والتنكيل، ويبرز مواقفهم السياسية من خلال البيانات التي كانوا يصدرونها. وما يلفت النظر في شهادة فاطنة البيه أنها لم تدرج بعضا من هذه البيانات لإبراز مواقف المعتقلين السياسيين من بعض القضايا الوطنية والدولية، ولم  تدل بدلوها في بعض النقاشات الساخنة التي كانت تدور بين مختلف التنظيمات اليسارية –سواء المحظورة أو المعترف بها- لتقويم الوضع واستشراف آفاق المستقبل.
2-4-لازمكان:
أيمكن أن تجري الأحداث في منأى عن الزمان والمكان؟ هذا ما تحاول فاطنة أن توهم به من خلال هذين المقطعين الحكائيين.
" المكان: لا مكان، فهو عبارة عن " كولوار" طويل تقابله ثلاث  غرف خالية من أي تجهيز يؤثثها المعتقلون، عفوا المختطفون، فكل هؤلاء لم يصدر في حق أي منهم أمر بالاعتقال.." ص11.
" الزمان؟ لا زمان.. لا فرق بين الليل والنهار. كل شيء متشابه، حتى التعذيب لا زمن له، فهو موجود هنا في كل وقت، وبكل الأشكال والألوان" ص17.
قضت فاطنة البيه سنوات الاعتقال في زنازين كثيرة موزعة على مدن مغربية مختلفة (اغبيلة، الدرب، لعلو، السجن المركزي، سجن مكناس، مخافر سرية). وكل زنزانة ترتبط لديها بمعاناة نفسية خاصة . وما كان ينغص عليها الحياة في السجن هو العزلة لذا كانت تطالب  بمعاشرة معتقلة أخرى  حتى تحس بالحرارة البشرية. ورغم تباين أقبية السجون  فهي تمثل " لامكان" لكونها تعيق تحرك المعتقل ورغبته في تحقيق ما يصبو إليه، وتفرض عليه حياة رتيبة، وتنمي لديه حاسة السمع لالتقاط ما يجري داخل السجن وخارجه.
رغم حفول الشهادة بالمؤشرات الزمنية والتحولات الحكائية، فهي تتسم باللازمن. وذلك لكون المعتقل يعيش حياة بطيئة ورتيبة، ويقوم بالحركات والأفعال نفسها. يحس بأن ما يعيشه من أحداث لا يعطيه الانطباع بتغير الأحوال وتبدلها. فالأيام التي يقضيها في السجن تكاد تكون متشابهة ومضروبة على المنوال نفسه.

3- صدمة المرض الخبيث:
3-1-تجربة المرض:
تصرح ليلى لحلو من خلال المقدمة التي صدرت  بها كتابها لا تنس الله  أنها لا تنتسب إلى دائرة الكتابة الاحترافية، وأنها تراهن أساسا على إرشاد القارئ إلى الصراط المستقيم باستلهام العبر من قصتها الواقعية التي كتبت كلماتها من صميم القلب ([41]). لما كانت ليلى لحلو، في يوم من الأيام، منهمكة في الاستحمام لاحظت احمرار ثديها الأيسر وانتفاخه. فشعرت بأقوى  صدمة تتعرض لها في حياتها. ومن ثمة حدث انقلاب في مسارها الشخصي، لم يؤثر فقط على نفسيتها وإنما أيضا على موقفها من الوجود وفلسفتها من الحياة. تفقدت أطباء أخصائيين في المغرب وبلجيكا وفرنسا بحثا عن العلاج الناجع، وسعيا إلى استرجاع دفء الحياة وطمأنينتها. وبعد معاينتهم تباعا للتحليلات الطبية  تأكدوا من إصابتها بداء السرطان. وهو ما جعلها تفقد الأمل في العيش، وتحس بأن الأبواب جميعها موصدة أمامها وأنها تعيش في ظلمات اليأس والإحباط. وبعد أن أكد أحد الأطباء أن أمل علاجها أصبح مستحيلا وأنها ستهلك بعد ستة أشهر، قرر الزوج أن يصاحبها لأداء مناسك العمرة للتبرك في مهبط الوحي.
وخلال الأيام التي قضتها بمكة أحست بتحسن حالتها، واختفاء الكويرات التي انتشرت في نصفها العلوي، وعدم شعورها بالتعب و الإعياء رغم قيامها بمجهودات كبيرة. وكان قوتها ماء زمزم ورغيف صغير وبيضة في اليوم. ولما عادت إلى المغرب أصرت –إلى جانب  الثقة في رحمة الله وبركاته- على مداومة العلاج رغم أنها-في قرارة نفسها- تعتز  بشفائها من المرض الخبيث والتخلص من براثنه. ومع مر الأيام انعكس المرض على صحتها بعد أن اشتدت خطورته وأوجاعه. ولم تجد بدا من العبادة لتطهير النفس من الوساوس والأوهام، والتجافي عن ملذات الحياة وغرورها إلى أن وقف عليها الرسول (ص) في المنام مخاطبا إياها  بهذه العبارة :" لا تقلقي و لا تنزعجي اصبري فوالله ما يصيبك   إلا الخير" ص/ص 155-156. لما استيقظت لاحظت  اختفاء اللحية التي ظهرت على وجهها نتيجة استعمال أدوية الكورتيزون، وبروز شعر الرأس والهد بين والحاجبين من جديد. وعليه تيقنت من استرجاع صحتها وعافيتها بفضل قدرة الله وقوته. " وبعد حدوث الآية الكبرى آية شفائي التي  لم تكن متوقعة وبعد هاته النهاية المباركة، صرت أومن  مع كل من  عاش معي قصتي بأن هناك قوة  وقدرة خفية لا تصل العقول لإدراكها. ألا وهي قوة الله.. ومادامت هذه القوة معك.. فاملأ بالأمل حياتك لأن   الله معك وأبواب السماء مفتوحة دائما لك وعلوك في الأرض لا يأتي إلا عن طريق اتباعك الله.. فلا تنس الله.." ص162.
3-2- الحدث الخارق:
تطرح هذه الشهادة تساؤلات كثيرة إما يشكك المتلقون في مطابقتها للواقع أو يصدقونها. يعتبر المشكك الأحداث المسرودة مصطنعة ومفتعلة لبواعث تجارية أو دعائية. في حين يعتبرها المصدق دليلا على وجود قوة خفية تفتح أبصار الناس وقلوبهم، وتخلصهم مما أصابهم من سوء أو مرض. يرجع شفاء المريضة إلى زيارة الحبيب المصطفى لها لتفقد حالها وإنعامه عليها برحمته وبركته. فهي حالة من الخوارق التي تسم أفعال الصالحين والأولياء  في مواجهة الأمراض الفتاكة والأخطار المحدقة. ولا يرتكز هذا النوع من الاستدلال على براهين علمية أو منطقية وإنما على براهين نفسية  يمكن أن نستجلي بعض معالمها الكبرى في ما يلي:
أ- تمثل القصة أحسن مثال  لنفوذ الإيمان في قلب المريضة، وتفانيها في حب الله والانقطاع إليه. وهذا ما ينجم عنه " الكشف العرفاني وفراسة المؤمن والبركات والخيرات على المجتمع والشفاء من الاضطراب والأمراض. فإذا وصل الإيمان والنور إلى مستواه الأسمى فإنه يبرئ الأكمة بل ويحيي الموتى بإذن الله كما حدث لعيسى عليه السلام" ([42]). وما يعلل هذا الطرح هو اهتمام الدراسات بمجاهل النفس البشرية والرؤية الصادقة والفراسة، واضطلاع كثير من الجامعات بفتح شعب  تهم  علم النفس الجانبي أو الهامشيParapsychologie وذلك لتفهم الأحداث الخارقة للعادة ([43]).
ب- أبدع عباس محمود العقاد مفهوم البرهان النفسي لبيان عجز البراهين  العلمية والمنطقية في تفسير بعض الخوارق .مثل قصة الإسراء التي  لم يصدقها بعض الناس فارتدوا عن الإسلام. كيف يعقل أنه أسري بالنبي (ص) الليلة إلى بيت المقدس؟ لكن باستعمال أبي بكر للبرهان النفسي صدقه فيما أبعد من ذلك لأنه أهل للتصديق. كما أنه معجب ببطولاته التي تتجلى في  بطولة الحق، وبطولة الخير، وبطولة الاستقامة، وبطولة الفداء.ويعرف العقاد البرهان النفسي كالتالي: " هو برهان لا خلل فيه من وجهته التي يستقيم عليها وإن لم يكن هو البرهان الذي تعود عليه المناطقة والعلماء" ([44]). ويكمن مرجع البرهان النفسي في " أنه سبيل الفداء في تقدير النماء"([45]).
ج-يرى ل.رون هوبار أن كثيرا من الأمراض النفسية والجسمانية يمكن أن تعالج بالقوة الحيوية La force vitale أي الطاقة الشعورية التي يتوفر عليها الإنسان للتغلب على الوساوس والأوهام التي جثمت على ذاته. فكلما تكدرت نفسيته كلما تفاقمت بعض الأمراض الجسمانية التي يعاني منها(المعدة، المعي الغليظ، القلب، الضغط الدموي، السكري.). وكلما " عولج الزيغان البشري  وجدت الأمراض طريقها إلى العلاج"([46]).
أوردنا هذه الأمثلة لبيان مدى صعوبة تعليل بعض الظواهر الخارقة التي ما زال العلم يعجز عن تفسيرها. وتحاول بعض المقاربات –على اختلاف مرجعياتها- أن تخترق مجاهلها لفهم ما تذخره من أسرار وخبايا.
3-3-اللغة :
تتسم اللغة ببساطة تراكيبها، وتقريرية تعابيرها، وتكرار مفرداتها وإطناب معانيها. وما يثير الانتباه أكثر هو كثرة نقاط الحذف والاستشهاد من القرآن الكريم والأحاديث النبوية. فنقاط الحذف تؤشر،عموما، على انصياع الكتابة للطابع الشفهي والهذيان والاستطراد، وتوهم باستغناء الكاتبة (ومن ساعدها) على كثير من الأحداث تجنبا للحشو والإطناب. ولم تسلم الشهادة منهما رغم عملية التشذيب التي طالت بعض تفاصيل المرض وتبعاته. واقتبست الكاتبة آيات كريمات وأحاديث نبوية لتعليل بعض مواقفها من الوجود، وبيان دورها في طمأنتها نفسيا، وإرشادها إلى جادة الصواب والرشاد.

4-صرخة الحياة:
4-1- بواعث الكتابة عن الذات:
تعترف رشيدة اليعقوبي بأنها كتبت رواية (الطوفان) عن صراعها المرير مع الرجل الذي دمر حياتها و نغص عيشها بتطليقها ولفظها إلى الشارع كما لو كانت قطعة غيار غير صالحة للاستعمال.  وإن لم يحالفها الحظ في نشر هذا العمل، فهو قد مهد  لكتابة عمل ثان حقق نجاحا من حيث إقبال القراء عليه وعدد طبعاته خلال سنوات معدودات ([47])."كنت، من الفينة إلى الأخرى، أعبر عن ذاتي في اليوميات. أنعزل  في مكان محجوب عن الأنظار لعله يسعفني على  تسويد الصفحات البيضاء بما عانيته. وهكذا كتبت الرواية الأولى  (الطوفان) التي لم تنشر بعد. وهي رواية  تعرض، وعيناي مغلقتان، سنوات النزاع  وخلافي مع الرجل الذي دمرني. لقد كانت هذه الرواية، نتيجة النهج الذي سارت عليه، تمهيدا للكتابة عن صرختي المدوية وللكتابة عن حاتي الصاخبة" ([48]). يكشف هذا المقطع الحكائي عن الخلفيات والبواعث التي استحثت  رشيدة اليعقوي على الكتابة عن ذاتها والبوح بشهادتها. ويمكن أن نستنتج منه ما يلي:
ا-إن الساردة غير واعية بالجنس الأدبي الذي ركبت غواربه للتعبير عن بعض تجاربها في الحياة. فهي مرة تطلق عليه رواية ومرة سيرة ذاتية ([49]). ومن خلال السياقات التي وردت فيها التسمية الأولى يتضح أنها كانت تقصد ما يندرج بصفة عامة تحت يافطة الكتابة عن الذات. وما يعزز ذلك أنها كانت تحرص على تسجيل  ما  يحدث لها وما تعانيه وتقاسيه من صروف الدهر وتقلباته ، ثم تختلي بنفسها لتحبيره في الدفاتر. فهي كانت واعية بأن تجربتها في الحياة تستحق أن تكتب لتظل شهادة حية عن معاناة المرأة المطلقة في المجتمع المغربي. ولم يكن هدفها أن تحتفظ بهذه الشهادة ضمن وثائقها الشخصية ، وإنما كانت تحرص على استحضار المادة الحكائية وتشخيصها بغرض نشرها حتى تطلع عليها شريحة عريضة من القراء. ولم تفتر عزيمتها بسبب تعذر نشر عملها الأول، بل بذلت قصارى جهودها إلى أن تحقق حلمها في إطلاع القراء على سرائرها وتجاربها مطبوعة ومنشورة في كتاب.
ب- من خلال المقطع الحكائي تقدم الساردة تعليلا مقتضبا وموحيا  للعنوان الذي اقترحته لشهادتها. وهو يتكون من عنصرين، وهما : حياتي وصرختي. وتسعى الساردة من توظيف ياء المتكلم - في غياب أي تعيين أجناسي على غرة الغلاف- إلى إثارة انتباه القارئ بأن المادة المروية تتعلق بتجربتها الشخصية في الحياة. تنعت الساردة حياتها بالصخب لأنها كانت مضطربة ومكتظة بالأحداث التي تضج ألما وحسرة. فلم تذق منها إلا المرارة ولم يهدأ بالها وضميرها بحثا عن إنقاذ فلذات كبدها من الضياع والتشرد. وتحكم على كتابتها بأنها عبارة عن صرخة  مدوية احتجاجا على ما تعرضت له من إهانة وتهميش وتحرش جنسي ورغبة في لفت الانتباه إلى الوضعية المأساوية للمرأة المطلقة التي غالبا ما تكون ضحية للتأويلات المغرضة والأفكار المسبقة. فبفضل كتابة رشيدة اليعقوبي عن ذاتها استطاعت أن تعيد الاعتبار لذاتها، وتضفي الشرعية على حياتها، وتسترجع بصيصا من الأمل لمقاومة صروف الدهر وتقلباته، وتعتز بأيام البؤس التي حافظت فيها على كرامتها وأخلصت لضميرها وأمومتها.
ج- لم يكن في حسبانها، وهي ربة بيت وذات مستوى تعليمي متواضع، أن تنشر يوما كتابا يحقق نجاحا غير منتظر.  ففي سن ثلاثة والأربعين قررت أن  تكتب عن حياتها غير عابئة بمشاغل الحياة وتصاريفها وسخرية الأبناء. وما ساعدها على ذلك هو قدرتها على التعبير والتواصل بلغة فرنسية منسابة وطلقة، وتسلحها بالعزيمة للتعريف بمعاناتها في الحياة، و جعل شهادتها عبرة للنساء اللواتي يقاسين من التهميش والحيف الاجتماعيين. وفي خضم حديثها عن ذاتها نتعرف على أحد من ساعدها في اقتحام محراب الكتابة، وهي شخصية نورة (ابنة عم زوجها السابق) التي كانت ، وقتئذ، تحضر الإجازة في الأدب. لم تبخل على مؤازرة رشيدة في التغلب على متاعب الحياة وتصحيح مسوداتها.
4-2-تجربة الطلاق:
يركز المحكي أساسا على تأثير الطلاق في مسار حياة امرأة. كانت تعيش وأفراد أسرتها في العيش الرغيد الذي كانت تنعم به الطبقة البورجوازية في مدينة الدار البيضاء. لكن الطلاق جعل حياتها تنقلب رأسا على عقب. تنكرت لها صديقاتها، ووجدت نفسها مشردة، ومجردة من ملابسها الفاخرة وحليها، ومهمومة بإيجاد مأوى لجمع شمل أبنائها وشغل يوفر لهم ما يسدون به رمقهم ويحفزهم على مواصلة مشوارهم الدراسي. وإن تجرعت المرارة من تجربة الطلاق فقد أسعفتها على معاينة عن كثب ظروف النساء المطلقات، واستجلاء بعض الظواهر الاجتماعية المستفحلة (الدعارة، التحايل، الخداع، المحاباة، الحيف الاجتماعي..)، وقيادة سفينة أسرتها إلى شاطئ الأمان رغم كثرة العراقيل والمثبطات. تقاسمت، في البداية، غرفا مع نساء يعانين تقريبا من المعاناة نفسها، ثم اشترت "براكة"([50]) في حي الصفيح لتختلي في عالمها الخاص، وتتفرغ لمعالجة مشاكلها الخاص بما أوتيت من عزم وصبر، وتشمر على ساعديها لطرق أبواب المنازل لحفز أصحابها على اقتناء الملابس التي كانت تسلمها لها رجاء. وإن تحسن حالها الاجتماعي نسبيا (شراء محل تجاري، الحصول على سكن، الزواج العرفي، العمل، تعليم الأبناء)، فهي لم تتخلص من شبح الضائقة المالية الذي قادها إلى دهاليز السجن. وتنتهي الشهادة بانفصالها عن لاري الذي كان زواجها به عرفيا ورزقت منه ببنت سمتها إسلام، وبدخولها إلى السجن جراء تلفيق تهمة مغرضة في حقها تتعلق بتسليم شيكات بدون أرصدة. لم تقدر على مواصلة الحكي بحجة عدم تضميد الجراح التي خلفتها تجربة السجن في نفسيتها." عزيزي القارئ. لا أقول لك وداعا وإنما إلى اللقاء. لما أضمد جراحي سأعود إليك. لست، لحظتئذ، قادرة على إثارة ذكرياتي القاسية في السجن. ربما  سأكون قادرا عليه في يوم من الأيام القادمة.." ص355.
ومن خلال هذا المحكي يتضح أن الساردة كانت تراهن أساسا على تكسير القيود واسترجاع حريتها  للتكفل بتربية أبنائها وإطعامهم من الجوع، وعلى فتح أعين النساء (المسرود لهن) وإرشادهن لتجنب مكائد الحياة([51]).
4-3-المصلحة:
ما تعلمته الساردة من وسطها الاجتماعي (قبل الطلاق) وتجربتها في السجن(بعد الطلاق) هو استحضار المصلحة الشخصية في نسج علاقاتها الاجتماعية، وإيجاد الحلول المناسبة لمشاكلها. وهكذا ترى أن الخبز، الذي يرمي بوفرة في القمامات، لا يمنح دون مقابل (انظر الهامش45)، ونعتت إحدى صديقاتها (فوزية) بالسذاجة لكونها تعاطفت معها دون خلفيات أو أفكار مسبقة، وطلبت منها أن تستقر في منزلها." هذه المرأة الساذجة ألحت علي قائلة: ابقي معنا، استريحي، حالتك تبعث على التعب" ص18. ومع تفاقم أوضاعها الاجتماعية وتكاثر حاجاتها أصبحت تبحث عمن يدعمها ويساندها في توفير ما تحتاج إليه، وتقديم يد المساعدة لتعليم أبنائها وعلاجهم. وهكذا لا تستحضر شخصية ما إلا لمواجهة محنة ما أو البحث عمن يتوسط لها لحل معضلة معينة. فهي تشعر، رغم مجهوداتها وتحركاتها، بأنها ضعيفة في عالم يسود فيه الأقوى، وتتحكم في خيوطه ودواليبه الشخصيات السامية. ولهذا تبحث عمن يحميها ويدعمها ليساعدها على حل مشاكلها، وتحقيق بعض أحلامها وأمانيها." الكونيل فلان. لم أصدق ما شاهدته عيناي. في لمح البصر اخترقت ذهني أشياء كثيرة.. غير ممكن.. أنت كونيل. أتأسف على تعرفي عليك اليوم. لو تعرفت عليك فيما قبل كان من الممكن أن أسجل ابني في  ثانوية عسكرية ، وبالتالي يريحني من صداع الرأس" ص276.
فكلما تفكرت صديقة إلا وطرقت بابها على مضض لعلها ترشدها إلى خيط من الخيوط الممكنة لحل مشكلة محددة. وفي هذا الصدد تلعب زوجات الشخصيات السامية دورا أساسيا في الوساطة للتأثير على الأوساط العليا، وحل المشاكل العويصة بالهاتف. " بعد شهر لم يحل المشكل. استدعتني الشرطة من جديد. ذهبت مسرعة عند مدام فلان. فقالت لي: لا تقلقي، إنه أجراء بسيط، اذهبي عند الشرطة غدا. سأتصل هاتفيا بالحاج" ص353.
ولا تجد رشيدة بدا من تحسيس الآخر بمشاكل أبنائها لكسب مودته وتعاطفه. وهذا ما جعلها تخرج من كثير من الورطات منتصرة. وأوهمت المعمر الفرنسي من خلال منظرها الخارجي بأنها امرأة فرنسية مطلقة تعيش ظروفا مزرية، وهذا ما جعله يتعاطف معها ويسلم لها السكن الذي كان يستقر فيه.
وإلى جانب دور الوساطة في حل المشاكل، كان بعض الرجال يحاولون استغلال وضعها الاجتماعي للتحرش بها جنسيا، وإرغامها على ممارسة الجنس مقابل تقديم خدمات لها. تتحاشى رشيدة البوح بالأسرار والدخول في التفاصيل حفاظا على سمعتها وتجنبا لتوريط أشخاص معينين، وتكتفي فقط بالتلميح إلى بعض النزوات الطائشة التي كانت تصدر أحيانا عن رجال السلطة في مقر عملهم. وفي هذا الصدد تغدق على نفسها أجمل الأوصاف ناعتة نفسها بالمحصنة والمتشبثة بالإسلام والتقاليد لكونها لم ترضخ لرغباتهم الملحة مستغلين سلطتهم أو جاههم أو مالهم. ومع ذلك كانت تستفزهم بملابسها الملتصقة ومفاتن جسدها." أثير الرجال بردفي المشدودين إلى سروال دجين البالي. لم أكن في نظرهم إلا دمية. وهذا ما كان يسبب تعاستي واعتزازي بذاتي في الآن نفسه" ص130.
4-4-التعبير:
تحكي رشيدة تجربتها بلغة فرنسية بسيطة عارية من الصور البلاغية. فهي تبذل قصارى جهودها لإيصال آلامها ومعاناتها إلى القراء المفترضين وخاصة شريحة النساء اللواتي يعانين من الحيف الاجتماعي، ويبحثن عن العبر المناسبة لاستلهامها في حياتهن. وتتميز لغة رشيدة –إلى جانب البساطة- بالسمات الآتية:
ا-الهجنة اللغوية: متحت الساردة بعض المفردات من العامية المغربية أو اللغة العربية ، ووضعت في آخر الكتاب ما يقابلها باللغة الفرنسية لتمكين القراء الأجانب من فهمها وفق السياقات التي وردت فيها. ومن ضمنها نذكر الألقاب الدينية والاجتماعية والإدارية (الحاج،الفقيه، القائد، العدول، المقدم، الشيخ، سيده ، للاه..) أو بعض الكلمات التي تتضمن شحنات عاطفية أو إيحاءات اجتماعية (شوافة، كانون، مومنة، ضمير، مسكينة..) أو بعض المسكوكات اللغوية التي تستدعيها مقامات معينة (الله يستر، بسم الله، السلام عليكم، دين مو، دين الكلب..).
ب-التكرار: تعتني رشيدة اليعقوبي بالتفاصيل والجزئيات التي يمكن للقارئ ، في حالة عدم إثباتها، أن يدركها مشغلا خلفياته المعرفية. فهي تكتب كما لو كانت تسرد قصتها شفهيا. وهذا ما نجم عنه التكرار والحشو، وهيمنة الطابع الشفهي.
ج- لغة الأعماق:
تكشف الساردة عما خلفته تجربة الطلاق في نفسها من جراح، وما قاسته من ضروب العسف والحيف، وما تعلمته من عبر ودروس لقيادة سفينة أسرتها إلى بر الآمان. وتستحضر، في مختلف المفاصل السردية، صورة الأم الصبور التي حنكتها التجارب، وتكبدت أصناف العذاب والآلام ، وضحت بالغالي والنفيس من أجل فلذات كبدها. "إن الكتابة النسائية هي كتابة الداخل: داخل الجسد، داخل المنزل. إنها كتابة العودة إلى هذا الداخل، وحنين إلى الأم والبحر" ([52]).
وإن كانت تعود إلى تجاربها الشخصية فهي تتعامل معها بلباقة حتى لا تحرج بعض الشخصيات التي حرصت على عدم الإفصاح عن هويتها، ولا تثير ما يمكن أن ينال من سمعتها ويخدش كرامة أبنائها. وقد شخصت من خلال ما يدمدم في أعماقها نحيزتها الأنثوية في تدبير شؤون البيت، والتعلق بمصير أبنائها، وتغليب كفة اللباقة والليونة على كفة العنف والمواجهة، واستخدام العاطفة لكسب مودة الآخرين وتغيير معتقداتهم. وما أقسى اللحظات التي عاشتها وهي تحس بالغبن والصغار من جراء نعتها بصفات بشعة لكونها مطلقة، وترى أبناءها يتألمون جوعا ولا يملكون حتى الخبز الحافي لملء بطونهم، ولا ينعمون بفرحة الأعياد ومباهج الحياة. ونتيجة ما ذاقته من  مرارة الطلاق، فهي تصف الرجال بالجنون الذي خلصها الله منه ، وتشعر بالإغماء لما تلتقي بامرأة مطلقة تعاني من المعاناة نفسها، وتغلق عينيها لما ترى سيارة الشرطة التي تقترن لديها بالحيف وانعدام الأمن([53]).
بعد الفراغ من تحليل كل عينة على حدة من محكي الحياة النسائية  يمكن أن نستنتج ما يلي:
ا-فترة محددة من العمر: تهتم الساردة فقط بفترة محددة من عمرها عانت من خلالها الأمرين (الاعتقال، المرض، الطلاق)، فتعمل على تفكيك خيوط ملابساتها وبيان انعكاساتها الوخيمة على مسار حياتها. وما حفزها على الاهتمام بهذه الفترة دون غيرها هو حصول تحول جوهري وحاسم في حياتها حتم عليها تغيير موقفها من الوجود. وبما أن صدمة هذا التحول كانت قوية على نفسيتها فهي اضطرت إلى التحدث عنه لبيان ما خلفه في أعماقها من جراح متغورة، وما تكبدته جراءه من ألوان العذاب والألم والحسرة، وما اضطلعت به من جهد لإثبات وجودها، ومقاومة صنوف الإقصاء والتهميش والتنكيل، واسترجاع بصيص من الأمل في العيش الكريم.
وتبدو هذه التجربة المروية مفصولة عما سبقها ولحقها. فالساردة تنكب أساسا على ما وقع خلال تجربة محددة من عمرها دون أن تستحضر طفولتها وتنشئتها الاجتماعية ومسارها الدراسي والعاطفي أو تستشرف ما وقع لها  بعد التجربة . وهكذا ينطلق  الحكي من التحول الحاسم والمأساوي الذي تعرضت له الساردة وقلب حياتها رأسا على عقب، ويدور عليه من مختلف الزوايا لإضاءة جوانبه الداجية، و استجلاء خيوطه المتشابكة، وبيان ما جنته الساردة منه من  فوائد وعبر رغم الظروف القاسية والصعبة التي عاشتها. وهكذا لا يضيف الحكي شيئا جديدا وإنما يكرر ما سبق ذكره في شكل مرجع دائري(Référence circulaire)([54]).
ب-تجاوز الأنا:
تتجاوز الساردة  حالتها الخاصة بهدف إعطاء بعد بيداغوجي وتاريخي  لتجربتها الشخصية([55]).ففي ما يخص البعد الأول تسعى الساردة إلى نقل قيم معينة إلى القراء (وفي مقدمتها قيمة الحرية)، وحفز شريحة محددة من النساء إلى استلهام العبر المناسبة من تجربتها لعلها تسعفهن على استرجاع الثقة بالذات واستشراف آفاق المستقبل المجهول بعزم وإصرار. وتسعى الساردة من خلال البعد الثاني إلى إبراز ما خاضته المرأة المغربية بصفة عامة من نضالات على  الأصعدة جميعها لانتزاع حقوقها المشروعة، والدخول إلى الحياة العمومية، والإسهام في توسيع هامش الحريات العامة.
ج- شهادة الإدانة: تحرص الساردة على جعل القارئ يعيش الأحداث المروية مباشرة كما لو وقعت "الآن هنا". وما يسترعي الانتباه في حكيها هو انسياب الحوار الداخلي في شكل مكاشفة ذاتية لمعرفة من ساندها في محنتها  وإدانة  من عكر صفو حياتها. وهكذا تدين فاطنة البيه " سنوات الجمر والرصاص" التي اقتطعت فترة جميلة من عمرها عسفا وظلما. وتدين رشيدة اليعقوبي السلطة الذكورية التي تنعتها بالجنون الذي يستهتر بكرامة المرأة ويحرمها من العيش الكريم. وتدين ليلى لحلو مباهج الحياة وزينتها التي تعمي الأبصار وتغشي القلوب.
د-جمالية " الشفافية"([56]).
لا تراهن الساردة فقط على إمتاع القارئ بمحكي حياتها وإنما حفزه على تصديقه.ولهذا تحرص على إضفاء المصداقية علية موهمة بأنها سردته بصدق وأمانة ودقة،  والتواصل مع شريحة عريضة من القراء (ضمان المقروئية والشفافية والتماهي العاطفي،والإكثار من الرواسم، وتكرار بعض الأحداث والمشاهد )، وخلق الانطباع بالواقع (اتسام أسماء الأعلام والأمكنة والأزمنة بأثر الواقع). و رغم افتقار هذا النوع من الكتابة للطابع الفني، فهو لا يخلو أحيانا من ألاعيب التضليل والتمويه والنسيان التي تضفي التخييل على التجربة المعيشة، وتجعل الحقائق المعروضة ملونة بالطابع النسبي وبالأحكام والأهواء الذاتية.
يعي سارد محكي الحياة مسبقا بأن هاجس جمالية الشفافية قد  يفضي إلى المس بشخص معين، ولهذا يضطر إلى ذكر الحرف الأول من اسمه أو نعته بفلان استدفاعا لتهمة التشهير التي يمكن أن  يصل  صداها إلى ردهات المحاكم للبث فيها. وقد يكون ذلك تحت إمرة الناشر الذي لا يستهدف الـتأريخ لمرحلة ما و محاكمة أشخاص معينين وتعنيفهم وإنما عرض حياة استثنائية في معاناتها وقسوتها وتقديم نماذج بشرية([57]). وفي هذا السياق نلاحظ أن رشيدة اليعقوبي تجنبت ذكر بعض الشخصيات إما خوفا من إثارة غضبها أو إحراجها. واقتصرت ليلى لحلو على ذكر الحروف الأولى من أسماء أطبائها تجنبا للنيل من سمعتهم بسبب عجزهم عن علاج مرضها الخطير رغم اعترافها بسلوكهم الحسن وعنايتهم الطبية الفائقة([58]). ولم تنح فاطنة البيه المنحى نفسه بحجة أنها تتعمد فضح الجلادين الذين أصبحوا مدانين اجتماعيا نتيجة ما اقترفوه من انتهاكات جسدية ونفسية على المعتقلين السياسيين. وهي تذكرهم بأسمائهم وألقابهم لعدم سوغ الالتقاء بهم من جديد في بلد يسعى إلى التصالح مع ماضيه([59]).
هـ- جفاء المرآة:
بحكم تركيز الساردة على تجربة محددة من  حياتها، فهي لا تكترث بتنشئتها الاجتماعية و ما صاحب طقوس المرور من تحولات فزيولوجية. وبما أنها مفجوعة ومكلومة بصدمة الواقعة، فهي لا تعير أهمية  لخصوصية الجسد الأنثوي. لقد تعرض جسد فاطنة البيه لشتى أصناف التعذيب والتنكيل الجسدي، وتدهورت حالتها الصحية والنفسية. وأصبحت ملابسها متسعة وفضفاضة على جسدها لشدة ضعفه وهزاله.  كانت-بسبب حرمانها من المرآة لمدة ثلاث سنوات- تعتمد على حاسة اللمس لمعاينة ما طرأ على جسدها من تغيرات، وتستسلم لأحلام واستيهامات لاستعادة ملامحها الهاربة وأنثاها الضائعة." أشعر أن صورتي بدأت تختفي ملامحها، أريد صورتي لأستعيد ملامحي.. لا صورة لي. أريد مرآة للتأكد: لا مرآة لي فمنذ ثلاث سنوات لم أمتلك صورة أو مرآة. أستنجد بالماضي، فأجد ذكرياته بكل حمولتها تقتحمني، تتبوأني، فأستسلم لخدرها. يراودني البحر بأمواجه..تراودني الشمس.. يراودني القمر.."ص43.
أرغم ضنك العيش وقسوته رشيدة اليعقوبي على عدم العناية بجسدها وأنوثتها. ورغم ما قدمته لها نورة وماريا من إغراءات لحفزها على الاهتمام بملبسها وهيئتها، فهي فضلت تغليب كفة الأم الحريصة على سمعتها وكرامتها بين أبنائها على كفة امرأة مستسلمة لنزواتها ورغباتها الطائشة. أصبحت لا تطيق النظر إلى المرآة بسبب ما طرأ على سحنتها وملامحها من تغيرات بسبب كدها المتواصل وعملها الدؤوب لإعالة أبنائها وتربيتهم. كان استفزازها للرجال ببعض مفاتنها مصدر تعاستها واعتزازها بنفسها في الآن نفسه. فهي-من جهة- تتألم داخليا لكونهم يتعاملون معها كدمية مجردة من الإحساس والوعي البشريين، ومن جهة أخرى تعتد بذاتها لكون  سمات جمالها وأنوثتها لم تندثر رغم قسوة الظروف وتقشفها." تعالي أطلي هذا الوجه الذي يشبه وجه رجل بالمساحيق.. وبعد ربع ساعة كانت رشيدة  بعيدة، لابسة لباسا فاخرا، مزينة .. لم أعرف نفسي في المرآة. اختفت صورة الأم الحنون لتحل محلها صورة إحدى محترفات المواخر. كنت على أهبة لإتقان هذه المهنة  التي استدرجت إليها..كان الإغواء قويا، وكانت المساعدة مغرية..أعادتني القوى الغيبية إلى الصواب، وحضرتني صورة أبنائي. وشيئا فشيئا اختفت عن الأنظار المرأة القدرية التي عكستها المرآة. كنت غيورة على دوري كأم لا يضاهيها أي ثمن. كيف يمكن لي أن أعرضه على المزايدة"ص42.
لما أصيبت ليلى لحلو بمرض السرطان تحولت من امرأة متمتعة بمباهج الحياة ونعمها إلى امرأة متقشفة في ملبسها ومأكلها ومنقطعة إلى عبادة الله. وهكذا أصبحت لا تطيق النظر إلى المرآة لكونها لا تعكس إلا آلامها جراء ما أصابها من مكروه غير جذريا نظرتها إلى الوجود." وأردت مس ثديي ولكني لم أفعل.. والتقت عيناي بالمرآة المعلقة أمامي وأغمضتهما وأخفيت يدي تحت الغطاء وتمنيت لو ربطتا بسلاسل من حديد حتى لا تسرعا إلى صدري.. كأني بابني كريم فهم الأمر.. فأخذ  يدي في يديه وضغط عليهما بقوة ليرجع   إلي اطمئناني وهكذا عشنا أقسى اللحظات وأسوأها.." ص33. وكأي إنسان فهي كانت تتوجس من استعمال الأدوية الكيماوية التي تؤثر سلبا على الجسم وتترك فيه مخلفات وخيمة (تشوه الأسنان، سقوط الشعر من الرأس والحاجبين والهد بين، ظهور شعر كثيف في الوجه). لقد وجدت في محبة الله وعبادته خير وسيلة للتخلص من وساوس المرض و رُهابه بعد أن تغلغل في جسدها مدمرا معالم أنوثتها وجمالها.
و-المغامرة الداخلية: يبدو من خلال التجارب الثلاث أن كل ساردة تحكي" نوعا من المغامرة الداخلية الموجهة إلى هم التوضيح وصفاء الذهن والانسجام أي ما يتعلق بأفعالها وعواطفها في مختلف لحظات مسارها"([60]). فما يهمها قبل كل شيء هو تطهير ذاتها مما تركته التجربة المريرة من آثار ليس فقط على جسدها وإنما أيضا على حالتها النفسية، وإعادة اكتشاف الذات واستجلاء مناطقها الداخلية المعتمة (إعادة تشكيل الهوية الذاتية)، واسترجاع خيوط الأمل في العيش الكريم ونيل اعتراف اجتماعي([61]) وإثبات الذات

---------------------------------------------
[1] -أو ضمن الأدب الهامشي Paralittérature أو ضمن أدب الكشك أو القطار. انظر في هذا الصدد إلى:
Gouégnas ( Daniel), Introduction à la paralittérature, Seuil,1992, p11.
تفيد السابقة  Para  بمحاذاة  وإلى جانب لذا ارتأينا أن نترجم Paralittérature بالأدب الهامشي بدلا من الأدب الموازي. فهذا النوع من الأدب لا يوازي الأدب وإنما هو مقصي ومهمش لكونه لا يتوفر على عناصر الأدبية.
[2] -فاطنة البيه، حديث العتمة، نشر الفنك، 2001.
-ليلى لحلو، فلا تنس الله، دار الرشاد الحديث،ط3،1985.
-Rachida  Yacoubi, Ma vie, mon cri, EDDIF ,4éd ,1997 .
[3] -L’herbe bleue journal d’une jeune droguée ( anonyme), traduit de l’américain , Presses de la Cité, 1972 ( édition de poche,Presse Pocket,1973).
[4] -Henri Charriére, Papillon , Robert Laffont,1969.
ونتيجة النجاح الذي حققه هذا الكتاب اضطلعت دار النشر نفسها  بنشر كتاب آخر له  من الطينة نفسها Banco. لكنه لم يدرك ما كان منتظرا منه بالقياس إلى الكتاب الأول.
[5] -إلى جانب اضطلاع الصحافيين   باستجواب شخصيات معروفة ( المهدي المنجرة، الفقيه محمد البصري، محمد اليازغي..) في شكل حلقات ثم طبعها فيما بعد في كتب، يحاورون ، من الفينة إلى الأخرى، شخصيات عادية للنبش في الذاكرة الشعبية، واستنطاق مناطق الظل  في الحياة المهمشة. انظر في هذا الصدد " من قصص المشعوذين" في ركن المسكوت عنه، جريدة النهار، يوليوز 2005، إعداد عزيزة هريش.
[6] -  نشير إلى كتاب فاطمة الزهراء أزرويل، البغاء أو الجسد المستباح، أفريقيا الشرق،2001 .خصصت ملحقا من دراستها لشهادات تحكي فيها المومسات بعفوية وتلقائية مغامراتهن في البغاء والبواعث التي حرضتهن عليه. ص/ص 115-156.
كما نشير إلى بعض البرامج المتلفزة التي تركز على تحدث الأشخاص عن تجاربهم الذاتية. نذكر منها على وجه الخصوص:
Bas les masques, France Télévision , émission animée par Mireille Dumas.-
- برنامج نوستالجيا ، التلفزة المغربية الثانية (2M)، إعداد رشيد نيني.
- برنامج زيارة خاصة، قناة الجريرة الفضائية، إعداد سامي كليب.
-  اضطلاع التلفزيون المغربي بنقل شهادات حية تبين ما تعرض له المعتقلون السياسيون من انتهاكات نفسية وجسدية فظيعة لا تحترم أدنى حق من حقوق الإنسان .
[7] -Remi Hess, La pratique du journal l’enquête au quotidien , anthropos,1998 p9.
[8] -Paul Hess, La vie à Reims pendant la guerre 1914-1918, notes et impressions d’un bombardé, Paris, Anthropos,1998, 600 pages dont présentation, illustration, index et appendices.
[9] - نمثل بهذا الاستشهاد على سبيل الحصر . يقول جواد مديدش في حوار أجراه معه عبد الرحيم حزل:" وقوة هذا الكتاب [ الغرفة المظلمة، منشورات إديف،2000] تكمن كذلك، في ما يمكن أن أسميه صدق الكتابة. فأنا لم أكتب هذا الكتاب لأهادن  الواقع أو ألمعه وإنما كتبته لأقول الحقيقة كما هي دون رتوش ولا تزويق. وهذه أمور يقع على القارئ وعلى التاريخ تمحيصها. وأنا مسرور بالنجاح الذي لقيه هذا الكتاب في طبعته الفرنسية"، سنوات الجمر والرصاص نصوص وحوارات في الكتابة والسجن، منشورات جذور،ط1،2004، ص63.
[10] -Lejeune (Ph), «  Le document vécu » in  Je est un autre l’autobiographie de la littérature aux médias,  Seuil 1980, pp207-208.
[11] -المرجع نفسه ص/ص215-216.
[12] -ليلى  لحلو، فلا تنس الله ،م.سا
[13] -فاطنة البيه، حديث العتمة، ما.سا
[14] -محمد الرايس، تذكرة  ذهاب وإياب إلى الجحيم، ترجمة عبد الحميد جماهيري،ط1، أفريقيا الشرق،2001. من مقدمته نقتطف القولتين الآتيتين: " قررت اليوم بعد تفكير طويل أن أكتب هذه الشهادات الحقيقية"، " نقول من جهتنا أن الطابع العلاجي للشهادة على المستوى الفردي يمكن أن يستجيب على الذات الجماعية على المستوى العام" ص5.
-" أحمد المرزوقي، تزممارت الزنزانة 10، طارق للنشر [د.ت]. ومن مقدمته نقتطف القول الآتي: " إن كل سجين نظرته الشخصية عن تلك المأساة وقد كتبت شهادتا الرايس  والمرزوقي باللغة الفرنسية لأنه كان في حسبان كاتبيها في تلك الفترة أن نشرهما لا يمكن أن يكون إلا خارج البلاد"
-     في ظهر كتاب حياتي صرختي (رشيدة اليعقوبي م.سا ) أكد الناشر  أهمية الكتاب في تقديم شهادة عن امرأة مطلقة عاشت تحولا مأساويا من حياة النعيم في منزل فخم إلى حياة الشقاوة في أحد أحياء الصفيح.
[15] -Aicha Ech-channa, Miseria , Le Fennec,4édition 2004.
[16] -Khadija Menebhi, Morceaux choisis du livre de l’oppression,  Multicom,2000.
[17] -Saida Menebhi , Poémes-Ecrits-lettres de prison , Feed-Back, 2 édition 2000.
[18] -مليكة أوفقير و ميشيل فيتوسي، السجينة، ترجمة ميشيل خوري، وردة للطباعة والنشر، دمشق، ط1، 2000.
[19] -العربي باطما الرحيل، الجزء الأول من السيرة الذاتية، دار توبقال الطبعة الثاتية، 2000.
 العربي باطما، الألم ،الكتاب  الثاني من السيرة الذاتية، دار توبقال،ط 4 ،2004.
[20] --جواد مديدش، درب مولاي الشريف الغرفة السوداء، ترجمة عبد الرحيم حزل، أفريقيا الشرق،2002. أثبت الناشر في ظهر علاف الكتاب مقطعا مقتطفا من التصدير الذي وضعه له أبراهام السرفاتي :" قراءة كتاب مديدش  صعبة وعسيرة. كقراءة كل ما كتب في سنوات الرعب. ويزيد  من صعوبة قراءة هذا الكتاب أنه يحكي التعذيب…وقد أفلح مديدش في أن يضفي على قصته مسحة إنسانية
[21] -في هذا الصدد يرى فليب لوجون أن محكي الحياة يكون مجردا من الشكل والمعنى الإجمالي ( حياة في شكل قطع غيار). لكن المساعد يعيد ترتيبها وتوليفها من الزاوية الكرنولوجية والموضوعاتية، وبالتالي يعطيها شكلا حتى ييسر عملية نشرها وقراءتها.
انظر في هذا الصدد إلى:
Philippe Lejeune, « l autobiographie de ceux qui n'écrivent pas » in Je  est un autre, op.cit p287.
[22]-- ibid p 229
[23] -هذا يتضح من عدد النسخ المصرح بها في ظهر الغلاف لتكون حافزا على توسيع دائرة القراء أو من عدد الطبعات. ويستعان حاليا ببعض المواقع  أو المدونات الالكترونية للترويج لبعض الكتب التي حققت نجاحا كبيرا في مبيعاتها. وفي سياق دراستنا نذكر ، على سبيل المثال، الكتاب الآتي، الذي طبعت منه أربع وأربعون نسخة:
Nedjma, l’amande ( récit intime), Plon ,2004.
[24] - Lejeune (Ph), «  l"autobiographie de ceux qui n écrive pas » in  Je est un autre  op.cit , p229.
[25] - وغالبا ما يعتمد الصحافيون على تسجيل شهادات حية من أفواه أصحابها. وهو ما يثير جدلا واسعا إثر نشرها، ويحفز الآخرين على الرد عليها . وبقد ما يتناوب أشخاص على التعليق على الحدث نفسه  تملأ ثقوب الذاكرة ويتضح مدى " نسبية الحقيقة" التي تلون بألوان شخصية وحسابات ذاتية وسياسية.
[26] - وهي فكرة تدعم كثير من المبادرات العالمية التي تشجع الأشخاص على تطوير قدراتهم التعبيرية والتواصلية، والتعبير عن تجاربهم المعيشة. و في هذا الصدد تكونت جمعيات تهتم بالكتابة عن الذات، وتنظم حلقات دراسية ومحترفات في موضوع محدد للانكباب عليه  من زوايا متعددة ( سرد رحلة أو سيرة ذاتية،  كتابة الرسائل، إعداد شهادة أو موجز الحياة الشخصية..). ولهذه الجمعيات مواقع عبر شبكة الانترنيت تعرف بأهدافها ومشاريعها وأعضائها، وتستقبل رغبات المشاركين بملء مطبوع الكتروني رهن إشارتهم وردود أفعالهم. ومن بينها نذكر أساسا:
-association sarai : histoiresdevise.free.fr
-Ateliers Elisaberh.bing : perso.club-internet.fr /atecbing.
-Aleph écriture stages : www.aleph-écriture.fr
[27] - يمكن أن تتعرض هذه المرويات إلى الإتلاف كما تحكي حليمة زين العابدين " استعرت تلك المسجلة من المرنيسي لأتمم فيها الحكي، لكن حدث أن وقعت بين يدي ولدي الصغير، فأتلفها، وكان بذلك انقطاع العلاقة بيننا"  عبد الرحيم حزل سنوات الجمر والرصاص م. سا ص102.وخوفا من ضياع مثل هذه المرويات لأسباب وبواعث متعددة عمدت  ميشيل فيتوسي التي  كانت تستجوب مليكة أوفقير إلى مضاعفة الأشرطة. انظر في هذا الصدد إلى كتابيهما ، السجينة، م.سا ص15.
[28] -Jean –Pierre Castelnau, « Présentation » in  Charriére (H)Papillon , op.cit p11.
[29] - يذكر اسم جون فرنسوا رفيل Jean-François Revel في بداية  كتاب الفراشة لبيان دوره في قراءة  مخطوط هنري شاريير وتصحيحه وإدخال تحسينات عليه كلما دعت الضرورة إلى ذلك.
[30] - Jacques Lecarme Eliane Lecarme-Tabone, L’autobiographie, Aramand Colin / Masson,Paris,1997,p13.
[31] -Béatrice Didier, L’écriture-femme,  PUF,1981, p13.
[32] - Jacques Lecarme Eliane Lecarme-Tabone, L’autobiographie, op.cit,p114.
[33] -ibid pp 110-111.
[34]- ibid p 113.
[35] -ibid p 110.
[36] - Béatrice Didier, L’écriture-femme,  PUF,1981, p6.
[37]  نذكر منها على وجه الخصوص:
- Jacques Lecarme Eliane Lecarme-Tabone, L’autobiographie, op.cit,
[37] - Béatrice Didier, L’écriture-femme,  op.cit*
- Eliane Lecarme-Tabone,” Exite-t-il une autobiographie des femmes” in Magazine littéraire, n° 409 mai 2002 ,pp56-59.
[38] - اقتبسنا هذا العنوان من الشهادة التي قدمتها فاطنة البيه  عبر التلفاز والمذياع في إطار جلسات الاستماع التي نظمتها هيئة الإنصاف والمصالحة لطي صفحة الماضي الأليم الذي اصطلح عليه ب" سنوات الجمر والرصاص". انظر إلى المقال المعنون ب " موشومات بسنوات الرصاص" في الموقع الالكتروني الآتي: www.telquel .online/com.
[39]-انظر إلى المقال السابق في الموقع نفسه على شبكة الانترنيت.
[40]-كلمة بالعامية المغربية يقصد بها الكيس الذي يحوي ما تبضعه الإنسان من خضر وفواكه.
[41]-  صدر هذا الكتاب في البداية باللغة الفرنسية  ، ثم ترجم دون الإشارة إلى المترجم . ونقتطف من مقدمته ما يدل على  عدم انتساب المؤلفة إلى الأدب الاحترافي: " إني لست بأديبة، ولم تسبق لي أدنى محاولة في ميدان الكتابة…  وكم سألت ربي.. في تقديم عمل ينفع الله به   من أراد أن يضع قدمه على عتبة الطاعة ليسلك طريق الرشاد في الدين والدنيا.. إنها قصة واقعية سجلت كلماتها من صميم   قلبي، إبمانا بأن ما خرج من القلب تهتز له القلوب، وما خرج من اللسان لا يتجاوز  الآذان" ص24.
[42]-انظر إلى المقدمة التي كتبها المهدي بنعبود للكتاب ص 15.
[43]- المقدمة نفسها ص/ص16-17.
[44]-عباس محمود العقاد، عبقرية الصديق، دار المعارف ط14 [د.ت]،ص59.
[45]-المرجع نفسه ص64.
[46]-L.Ron Hubbard, La dianétique La science  moderne du mental ,publication international Aps1987,p96.
[47]-Rachida Yacoubi, Ma Vie, op.cit.
[48] المرجع نفسه ص 174.
[49] -المرجع نفسه 190
[50] -بيت من القصدير في حي الصفيح.
[51] نورد، في هذا الصدد، المقاطع الآتية: " من أجلكم أيتها النساء  أحكي ماضي الشخصي. آمل من خلاله على إنقاذ بناتنا اللواتي يعتبرن طرفا منا، وجعلهن يتجنبن  مكائد الحياة" ص 55. " لهذا  أحرص على بقائي حرة. لا يمكن لأي   قوة أن تنتزع مني حريتي. سأكسر السلاسل الأكثر متانة لأجري نحوكم  يا أبنائي" ص252. " كان همي الأساسي منحصرا في الخبز اليومي. كسرة من الخبز؟ أتخيل اندهاشك عزيزي القارئ. نعم الخبز الذي يرمى بوفرة في القمامات، لكن لا يمنح دون مقابل.. نستغل أحيانا بؤس الآخرين تحت ذريعة السخاء" ص91.
[52] - Béatrice Didier, L’écriture-femme ,op.cit ,p37.
[53] - " لما رجعت إلى العش  وجدت أبنائي  ينتظرونني بأفواه  فاغرة. يريدون هذا الخبز  و لو كان حافيا. يجب علي أن أبحث عنه"ص91.
" أقاسي كثيرا من أجل الآخرين. أكاد أن يغمى علي لما ألتقي بامرأة تعاني من المأساة نفسها التي أعاني منها. إنها تعكس  صورتي. أعيش من خلالها واقعي وشحوب لوني و مأساتي . أغلق عيني لما تمر سيارة الشرطة حتى لا أقرأ الكلمة الفظيعة " الأمن". وهي الكلمة المبعدة عن وجودي. لم أتمكن من معرفتها فعلا. لم يكن في خبايا حياتي المظلمة والباردة إلا انعدام الأمن " ص255.
" لما نزلت من سيارة الأجرة السرية التي قادتني إلى منزلي. لم يبق في جيبي  إلا 70 سنتيم. أبنائي ينتظرون  شراء  كبش كما هو حال جميع أطفال المسلمين. قبل يوم عيد الأضحى لم أرغب في إثارة معهم موضوع الأضحية لكنهم أدركوا مدى عجزي عن شرائها" ص 349.
[54] - Daniel Couégnas, « Illusion référentielle » in Introduction à la paralittérature, Seuil, 1992 p93.
[55] -انظر في هذا الصدد إلى:
 Jacques Lecarme Eliane Lecarme-Tabone, L’autobiographie , op.cit pp117-118.
[56] -انظر في هذا الصدد إلى :
Daniel Couégnas, « Illusion référentielle » op.cit p85.
[57]-Jean-Pierre Castelnau, «  Présentation » in Henri Charriére, Papillon op.cit p11.
[58] - " أعلمت أن الأطباء قالوا لي :" لم يبق من حياتك إلا ثلاثة أسابيع" أما أطباء بلجيكا فرفضوا رفضا باتا علاجك وزعموا أن دواء هذا الداء الخطير لم يوجد  بعد، وكنت أخفيت ذلك عنك" لاتنس الله،م.سا ص96.
" لقد زرت عدة أطباء قبله ولست بحاجة إلى ذكر أسمائهم ولم يشر علي ولو واحد منهم بالعلاج، بل بالعكس فكلهم حكموا علي بالإعدام لمدة وجيزة لا تتجاوز بضعة أسابيع زاعمين أن هذا المرض استولى علي واستعصى العلاج فيه" المرجع نفسه ص138.
[59] - انظر إلى مقال معنون ب " موشومات بسنوات الرصاص" م.سا.
-Marie-Madeleine Million-Lajoine , Reconstruire son identité par le récit de vie, L’Harmaton,1999,p108.[60]
[61] -يشعر كاتب محكي الحياة  بأن ما عاشه يستحق  أن يسرد ويكتب ويقرأ بدعوى الطابع الاستثنائي والمأساوي تقريبا لبعض اللحظات من مساره الشخصي. المرجع نفسه ص38.



     

Powered by: Arab Portal v2.2, Copyright© 2009