قراءة جديدة للتراث السردي في المشروع النقدي للباحث سعيد يقطين-محمد الداهي
رابط الصفحة :www.mohamed-dahi.net/news.php?action=view&id=54
الكاتب: mdahi


 حرر في الأربعاء 02-06-2010 06:34 أ£أ“أ‡أپ

ونظرا لتنوع اهتماماته بالسرد فإني سأقصر مداخلتي على جانب واحد منها وهو المتعلق بالقراءة الجديدة للتراث السردي (أو السرد العربي القديم) ([1]).
1-التعامل مع التراث:
أ- يتخذ الناقد سعيد يقطين مسافة نقدية مع التراث، مسائلا السائد من المعتقدات والجاهز من التصورات والأجوبة.
ب-ينطلق من فرضيات وأسئلة محددة سعيا إلى الحصول على معرفة جديدة ومختلفة، وإعادة الاعتبار إلى نصوص سردية ظلت مهملة ومقصاة لبواعث متعددة.
ج-يدعو إلى الابتعاد عن النرجسية الذاتية أو التمركز على الذات، وإلى ملاءمة الانفتاح على التراث الإنساني، ومقاربة التراث العربي في ضوء ما تراكم من معارف وعلوم حديثة.
2-السرد العربي:
يستعمل سعيد يقطين مفهوم " السرد العربي" ليكون المفهوم الجامع لكل التجليات المتصلة بالعمل الحكائي. وهو بمثابة الجنس العام الذي توظف فيه صيغة السرد التي تهيمن على باقي الصيغ في الخطاب، ويحتل فيه الراوي موقعا هاما في تقديم المادة الحكائية. إن اعتبار السرد العربي جنسا يستدعي أن تكون له أنواع، كما يقتضي أن يكون له تاريخ. وما دام الجنس ثابتا، فما يتغير ويتحول هي أنواعه وأنماطه.
انتبه كثير من الباحثين العرب منذ أواسط هذا القرن إلى الحضور الهام للسرد في التراث العربي. فمكانته لا تقل أهمية عن الشعر الذي حظي أكثر من غيره من الأنواع بالاهتمام والدراسة على امتداد تاريخ الأدب العربي عموما. لقد كرس هؤلاء الباحثون (على نحو موسى سليمان وعزة الغنام ومحمد رجب النجار..) جهودهم للاهتمام بنوع سردي معين أو بأنواع عديدة. وتندرج محاولة سعيد يقطين في إطار توسيع المتن السردي ليشمل أنواعا أبعدت وأقصيت من مملكة الأدب لاعتبارات إيديولوجية وأخلاقية، والدعوة إلى إنشاء المكتبة السردية العربية بما تزخر به من أجناس وأنواع وأشكال لم يلتفت بعد إلى العديد من تجلياتها، و إلى التسلح بأدوات جديدة ومنهاجية جديدة (السرديات) تسعف على ما يلي:
- التصنيف العلمي: يتيح إمكانية الوصول إلى تعرف تشكلات السرد وتمظهراته، والوقوف على خصائصه ومميزاته وبنياته المتعددة .
- التصنيف: ينبغي مراعاة خصوصية النص العربي بهدف فهم تنويعاته وتجلياته وعلاقاته بأنواع أخرى . ومن حسن الحظ أن الاهتمام بالسرد جاء بعيدا عن التصورات التقليدية للشعر، وإلا كنا سنتحدث-أسوة بالتقسيمات المعتادة- عن السرد الجاهلي والسرد الإسلامي .
-الانفتاح: لا يمكن التوقف عند الجوانب الوصفية والتاريخية والتصنيفية للظاهرة السردية، وإنما يجب إبراز أبعادها الدلالية والتأويلية المختلفة. وهذا ما يقتضي الانفتاح على علوم إنسانية أخرى وفي مقدمتها الأنتربولوجيا التي تساعد على الكشف عن مضمرات البنيات الذهنية العربية.
3-المتون التراثية وزويا معالجتها:
أ-بعد أن أرجع سعيد يقطين الأنواع والأنماط إلى أجناس الكلام العربي ( الشعر والحديث والخبر)، قصر بحثه على جنس واحد وهو الخبر. وفي هذا الصدد أعاد الاعتبار إلى السيرة الشعبية وجنسها بوصفها نوعا من أنواع الخبر، ونظر إلى السرد بوصفه جنسا ثابتا قابلا للتمفصل من حيث التجلي وفق المبادئ المنطلق منها. وهكذا يعتمد في النظر إلى جنس السرد من حيث الثبات بالانطلاق من القصة ( المادة الحكائية)، وينظر إلى التحول من جهة الطرائق الموظفة (الخطاب) لتقديم المادة الحكائية. ويدخل ضمن التغير كل ما يتصل بالأغراض والغايات. وبما أن هذا المبدأ يتصل بالنمط، فإن سعيد يقطين ربطه بالنص باعتباره موئل الدلالة، ويستنتج ما يلي:" وبناء على هذه المبادئ الثلاثة يتاح لنا النظر في السرد من حيث تجليه من جهة بنياته الحكائية(المادة) والخطابية النحوية (الخطاب) ووظائفه الدلالية(النص). وبذلك نؤكد ترابط المبادئ بالمقولات والتجليات أفقيا وعموديا، ونؤكد تداخلهما جميعا، وعلى كافة المستويات من منظور كلي وشمولي"([2]).
يسعى سعيد يقطين إلى إقامة تصور سردي ينهض على ثلاثة اختصاصات متكاملة ومتداخلة للنظر إلى البنيات الخطابية والنصية والحكائية لأي جنس سردي. ويهتم كتاب "قال الراوي"([3]) بمادة الحكي ضمن السرديات من خلال مطابقة القصة بالجملة الفعلية من جهة، وبمطابقتها بالواقع المشخص عبر التجربة من جهة ثانية. ويتعامل سعيد يقطين مع الحكاية بوصفها المقولة الجنسية الخاصة بجنس الخبر أو السرد، وباعتبارها كلية ثابتة تضم شبكة من المقولات الفرعية ( الأفعال والعوامل والزمن والمكان). خصص سعيد يقطين لكل مقولة من هذه المقولات الأربع فصلا خاصا، واشتغل عليها من وجهة نظر الناقد والمختص بمجال الشعرية لتقديم تصور ملائم حول جنسية السيرة الشعبية ( بيان بنياتها المجردة الكلية) وتجلياتها النصية ( التعامل مع بنيات كائنة وملموسة). إن أي منظور يزاوج بين الاختصاصين إلا ويراهن على ركوب غوارب الرهان الصعب، ويتطلب جهودا مضاعفة بخاصة لما يكون المتن ثرا على نحو المتن الذي درسه سعيد يقطين ( عشر سير شعبية وتسعة وثلاثون مجلدا).
وبعد الفراغ من التحليل برهن سعيد يقطين علة صحة الفرضية المنطلق منها ، والتي تنظر إلى النص في ذاته، وفي علاقته وتفاعلاته مع غيره (الثقافة). وبمقتضاها تم التعامل مع السيرة الشعبية بوصفها نصا واحدا يتميز عن غيره من السير والأعمال السردية، وباعتبارها موسوعة حكائية تتضمن معارف ومعلومات غزيرة، وتستوعب أجناس الكلام العربي وأنواعه وأنماطه، وتختلف في بنياتها ووظائفها عن الموسوعات والمصنفات العربية. وهكذا أدرجت السيرة الشعبية ضمن جنس الخبر أو السرد. واعتبرت الجنسية مقولة كلية تندرج تحتها أنواع تتعدد بتعدد الأجناس، وحددت جنسية السرد من خلال الحكائية بوصفها مقولة كلية جامعة، وربطت الحكائية بالمادة الحكائية. وتبين من خلال عملية التحليل أن كل مقولة على حدة لها بنياتها الكبرى والصغرى، وأن السيرة الشعبية تنفرد بنصيتها وتتميز بوحدتها، وأنه توجد علائق متينة وقوية بين مختلف البنيات التي تتضمنها المقولات الحكائية.وإن تعددت بنيات السيرة الشعبية ومقولاتها، فهي تظل منضبطة غاية الانضباط لمركز جدب واحد. وفي هذا الصدد بين سعيد يقطين ما يلي: بضبطنا لمركز التوجيه هذا ( الزمن)، وربطه ب" دعوى النص" نكون قد أمسكنا بالعنصر الذي يلحم مختلف البنيات ويحدد، تبعا لذلك ما كنا نسميه خلال التحليل " الرؤية الحكائية الكبرى"، والتي تتحدد من خلال " الرؤية الزمنية العامة"، وما يتولد عنها من رؤيات تتصل بكل مقولة من المقولات الحكائية. وهذه "الرؤية" أو " وجهة النظر" التي تبرز لنا من خلال الراوي في علاقته بالشخصيات والفضاء المركزيين، هي نفسها التي تربط الراوي ومختلف عوالمه الحكائية "([4]).
ب- انصب اهتمام سعيد يقطين في كتابه الرواية والتراث السردي ( من أجل وعي جديد بالتراث)([5]) على البحث عن كيف يتعالق أو يترابط نص جديد (الرواية) مع نص سردي قديم اعتمادا على النماذج الآتية:
-الزيني بركات لجمال الغيطاني : بدئع الزهور لابن إياس
-ليالي ألف ليلة لنجيب محفوظ: ألف ليلة وليلة
-نوار اللوز لواسيني الأعرج: تغريبة بني هلال
-ليون الأفريقي لأمين معلوف: وصف أفريقيا للحسن بن محمد الوزان.
لقد سبق لسعيد يقطين في كتابه انفتاح النص الروائي(1989) أن اشتغل بثلاثة أنواع من التفاعل النصي، وهي : المُناصّة والتناص والميتانصية وذلك باعتبارها بنيات نصية يستوعبها النص ويتفاعل معها داخليا. ويندرج كتابه الرواية والتراث السردي في إطار معالجة مستوى آخر من مستويات التفاعل النصي وهو ما يصطلح عليه بالتعلق أو الترابط النصي (Hypertextualité) . وتوخى سعيد يقطين من توظيفه إبراز كيف تتفاعل الرواية بوصفها نصا لاحقا مع التراث السردي باعتباره نصا سابقا، وتبيان مدى إنتاجية النص المتفاعل مع غيره وقدرته على إنتاج معرفة جديدة من خلال تفاعله مع النص التراثي. وهكذا تدرج طموح سعيد يقطين من الأدبي الخالص إلى الثقافي بحثا عن وعي جديد بالمسألة التراثية عموما.
وبعد اضطلاع سعيد يقطين بتحليل عينات من التعالقات النصية خلص إلى أن "المتفاعل النصي" العربي الحديث لم يحقق تفاعلا إيجابيا مع العناصر الأربعة بصورة مستقلة (النص التراثي، والواقع الذاتي والنص الجديد والعصر الحديث). إنها تشكل، في مجملها، كلا معقدا ومركبا. فلا يمكن أن يتفاعل الروائي المعاصر مع النص التراثي وهو عاجز عن تحقيق " تفاعل إيجابي" مع " النص الجديد" ( المعارف الحديثة المختلفة) أو الواقع العربي الحديث. ومن مظاهره عجزه هو أنه لا يستند في موقفه من الوجود إلى نظرة كلية وإنما يتفاعل معه بطريقة اختزالية وانتقائية. " إن المتفاعلات النصية التي أنتجت في هذه الحقبة، سواء وهي تتفاعل مع التراث أو الغرب، وإن حاولت " تحويل" البنية النصية المتفاعل معها ( الغرب الاشتراكي والمضمون القومي للأدب القديم أو في التراث الشعبي أو في الأدب الحديث)، فإنها ظلت في العمق ناقصة أو عاجزة عن إنتاج معرفة جديدة، لقد بقيت " صدى" أخرس لنظريات غير مستوعبة-على الصعيد الأدبي- وغير قادرة على فهم البنية النصية الإبداعية التي " أنتجها" شعراء وروائيون عرب في هذه الفترة، وعلى تحليلها تحليلا يكشف عن طبيعتها " التحويلية" و"الإنتاجية"" ص135.
إن التفاعل مع التراث إيجابا لا يكمن في" تقديسه" أو " التنكر له"، وإنما يقتضي أنجاز ما يلي : فهم التراث بأسئلة جديدة، ثم استيعابه في ضوء علاقته بشروط إنتاجه، ثم قراءته بهدف إنتاج معرفة جديدة وتجاوز النظرات الاختزالية والإسقاطية.
ج-درس سعيد يقطين في كتابه السرد العربي ([6])عينات من التجليات السردية في التراث العربي القديم:
-سعى إلى الإمساك بآليات كتاب أبي حيان التوحيدي " الإمتاع والمؤانسة"، وتشخيص خصوصيته من خلال معالجة مفاهيم أساسية ، وهي المجلس والكلام والخطاب.
-من مميزات الرحلة المدروسة نذكر الزمن والمكان والصيغة والبناء.
-رصد مختلف مكونات الرؤيا من زاويتي التلقي والتأويل، ثم بين صلاحية هذا التأويل وحدوده.
-بحث، من خلال اقتحام عالم تلقي العجائبي، عن كيف يتحقق الاندماج أو الاشتراك في النص ( المروي له-القارئ) ، وبين أنه لا يمكن أن نتناول تلقي العجائبي بطريقة علمية دون البحث في شكله، وعلاقته بالأنماط الأخرى، ووصف بنياته وآلياته.
-أعاد تشكيل سيرة شعبية (سيرة بيني هلال مثالا) انطلاقا مما هو مطبوع أو مخطوط وذلك في إطار إنشاء " المكتبة السردية العربية".
مما تقدم نخلص إلى ما يلي:
أ-يقدم سعيد يقطين مفهوما جامعا وهو السرد ليصبح قرينا للشعر في التراث العربي. وهذا ما حفزه على التفكير في كل ما يتصل بالسرد من قبيل إعادة تجنيسه وكتابة تاريخه وجمع مواده. إن اهتمام سعيد يقطين بالسرد العربي تحكمت فيه حوافز ودواع علمية تهدف إلى إنتاج معرفة جديدة ومنتجة عنه في منأى عن كل النظرات الاختزالية والإسقاطية للتراث .
ب-إن عدم تعامل سعيد يقطين مع السرديات بوصفها مجالا ضيقا، حتم عليه التعامل مع السرد حيثما وجد، وتوسيع السرديات وإعادة صياغتها لمقاربته من زوايا مختلفة ومتكاملة. وهكذا صنف السرديات إلى ثلاثة أصناف، وهي: سرديات القصة (الاهتمام بالمادة الحكائية) وسرديات الخطاب(العناية بالسردية التي بواسطتها تتميز قصة عن أخرى) وسرديات النص(علاقة السرد بالمتلقي في الزمان والمكان، ووضعه في نطاق البنية النصية الكبرى). اهتم بحكائية السيرة الشعبية ( موضوع سرديات القصة) مرجئا تحليل سرديتها (موضوع سرديات الخطاب) ونصيتها ( موضوع سرديات النص) إلى أجل غير مسمى. ولما نستقرئ أبحاثه نجد أنه شغل مفاهيم سرديات الخطاب في كتابيه تحليل الخطاب الروائي و انفتاح النص الروائي(1989) محققا الانتقال من المظهر اللفظي إلى المظهر الدلالي، كما أنه وظف مفاهيم سرديات النص في كتابه السرد العربي متوخيا إبراز علاقة النص بمتلقيه في الزمان والمكان، وبيان مدى اضطرار الباحث إلى تجديد أدواته وأسئلته لفهم كثير من الجوانب المهملة والمقصية في التراث السردي العربي.
ج-تتضمن مؤلفات سعيد يقطين كثيرا من القضايا والأسئلة التي تُعنى بالسرد قديمه وحديثه. وهي، في مجملها، تكون مادة ثرة يمكن أن تحفز الباحثين على الإلمام بها والتعمق فيها وإعادة تشكيلها ومعالجتها بالعدة النظرية الملائمة. وهي مهمة موكولة إلى من تتلمذ لسعيد يقطين أو إلى غيره من الباحثين لمواصلة البحث الجاد، وحفظ التسلسل ، وإعادة فرع إلى أصل.
د-رغم إيمان سعيد يقطين، بحكم اشتغاله في الأفق الشعري أو البويطيقي، بالتحليل العلمي في مقاربة النص الأدبي، فهو يشيد بسرديات منفتحة على علوم إنسانية أخرى على نحو علم الاجتماع والأنتربولوجيا ، وهذا ما حفزه على السعي إلى تأسيس سرديات اجتماعية أو انتربولوجية تعنى بما يتضمنه السرد العربي من بنيات ذهنية ومضامين اجتماعية وأسطورية
هـ يرى سعيد يقطين أن كثيرا من الأمور في تراثنا السردي لم تراكم بصددها دراسات جادة وأصيلة وذلك على نحو " العجائبي" و" المتخيل" و" الوقعي". وهذا ما يتطلب معاودة استقصائها واستكشافها بأدوات علمية وأسئلة جديدة من أجل استيعاب مضمراتها وبنياتها الدلالية والرمزية، وتمثل تجلياتها النصية والسردية والجنسية، وتقديم معرفة جديدة حولها. وفي هذا الصدد يرى سعيد يقطين أنه إذا " ساهم المشغلون بالأدب في بلورة رؤية جديدة لمعالجة موضوعهم، يمكن لمساهمتهم أن تكون طليعية، وتدفع المشتغلين في حقول أخرى إلى ذلك" ([7]).
*****

الهوامش:
[1] - نص المداخلة التي ألقيتها في اليوم التكريمي لسعيد يقطين الذي نظمته المندوبية الإقليمية لوزارة الثقافة وجمعية أصدقاء المعتمد بشفشاون ، السبت 31 ينابر 2009,
[2] -سعيد يقطين : الكلام والخبر مقدمة السرد العربي ، المركز الثقافي العربي، ط1، 1997، ص220.
[3] - سعيد يقطين : قال الرواي، البنيات الحكائية في السيرة الشعبية، المركز الثقافي العربي، ط1، 1997.
[4] - المرجع نفسه ص-ص321-322..
[5] -سعيد يقطين: الرواية والتراث السردي ( من أجل وعي جديد بالتراث)، المركز الثقافي العربي، ط1، 1992.
[6] - سعيد يقطين : السرد العربي مفاهيم وتجليات، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، 2008,
[7] - سعيد يقطين : "السرديات كما أتصورها"، مجلة علامات العدد 25، 2006 ، ص 45



     

Powered by: Arab Portal v2.2, Copyright© 2009