السيرة الذاتية بين الحقيقة والخيال - إعداد حميد لحمداني(*)
رابط الصفحة :www.mohamed-dahi.net/news.php?action=view&id=8
الكاتب: mdahi


 حرر في الجمعة 18-12-2009 09:03 أ£أ“أ‡أپ

والمحور الثاني نحاول من خلاله مناقشة النتائج التي توصل إليها الباحث في هذا الكتاب القيم في ضوء البحث الحديث والمعاصر في الكتابة عن الذات وفي ضوء الآراء التي بدأنا نساهم بها في بناء تصور نظري حول  مفهوم السيرة الذاتية على الخصوص منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي :


تصور الباحث عن الكتابة عن الذات :


جاء تقديم الكتاب وافيا بالمعلومات النظرية الخاصة بطبيعة الكتابة عن الذات وواقعها الحالي في الغرب والعالم العربي، وقد تمت الإشارة إلى القضايا التالية :


ـ توسع دائرة الاهتمام بأنماط الكتابة عن الذات في العالم الغربي وانحسار هذه الدائرة في العالم العربي لفائدة نوع  فرعي وهو السيرة الذاتية  ( ص: 10 )


 أسباب ذلك راجعة في نظره إلى:


     ـ تطور وسائل الإعلام


     ـ الهامش الديمقراطي


     ـ انتشار التعليم


     ـ ذيوع كتابة المدونات


ـ الإشارة إلى  الأشكال التي  تـنتمي إلى مفهوم الكتابة عن الذات :


             السيرة الذاتيةautobiographie  


            الاعترافات    confessions


            الرحلة Récit de voyage


            اليوميات الخاصة Journals intimes


            المذكرات Mémoires


            التخييل الذاتي Auto-fiction


             محكي الحياة Récit de vie


            السيرة الذاتية الذهنية Autobiographie intellectuelle   


كما عالج الباحث في المقدمة واحدة من أهم القضايا المتصلة بطبيعة الكتابة عن الذات و يلخصها السؤال التالي:


 ما مدى تطابق مضامين الكتابة الذاتية مع حقائق الحياة الخاصة لكُتابها ؟


وقد قدم الباحث إجابة واضحة عن هذا السؤال تمثل في الواقع صلب التوجه العام في هذا الكتاب. إذ يرى أن اعتبار الرواية جنسا تخييليا  fictionel والسيرة الذاتية جنسا واقعيا Factuel  تمييز متعسف، لأنه لا يقيم اعتبارا لشروط إنتاج النصوص ولتدخل التخييل في ممارسة الكتابة عن الذات . كما يرى أن الفرقَ المشار إليه وهميٌّ ما دام الجنسان معا يستوعبان ما هو واقعي وخيالي على السواء.( ص: 15 )


ويصرح الكاتب بعد هذا أنه يريد تجنب آفتين معروفتين في الدراسات التي عالجت موضوع الكتابة عن الذات وهما :


       ـ  النظر إلى جميع أنماط الكتابة عن الذات بمقاييس خاصة بالسيرة الذاتية دون مراعاة الفروق القائمة بينها.


       ـ الانطلاق في تصنيفها من الميثاق السردي رغم أنه لا يساعد على فهم العلاقة الملتبسة بين الكتابة والحياة. ( ص: 16 )


أما بخصوص محتوى الكتاب فقد تم تحديد أهدافه العملية والتطبيقية فيما يلي:


   ـ إثبات أن العرب وضعوا سابقا أسس الكتابة في السيرة الذاتية من خلال كتاب " التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا، لكنها سيرة ذهنية وفكرية بالأساس ( ص: 24 ).ومعلوم أن الباحث خصص كتابه " شعرية السيرة الذهنية ( محاولة تأصيل ) لتأكيد هذا الإثبات وتحديد المميزات الخاصة التي ينفرد بها هذا النوع عن غيره من أشكال الكتابة عن الذات  .(منشورات فضاءات مستقبلية ط:1. 2000 . )


   ـ دراسة وسائل توثيق الكتابة في السيرة الذاتية ( أوراق للعروي ) وما يكون لهذه السندات من دور ملموس في التصديق على العقد الأوطوبيوغرافي بالخصوص وإضفاء نوع من الحيوية على محكي السيرة الذاتية .. ( ص: 71 )


  ـ الاهتمام بالعوامل التي ساهمت في انتشار الكتابة في نطاق ما يسمى " محكي الحياة " في المغرب، وبيان الطابع غير الاحترافي الذي تتميز به هذه الكتابة عن غيرها من أشكال التعبير عن الذات .( ص:76 )  


  ـ بيان كيفية الانتقال من استراتيجية المعيش إلى استراتيجية التخييل في نمط هجين هو السيرة الروائية ( ممثِّلا لذلك بكتابات  محمد شكري ) حيث تتحول الكتابة عن الذات إلى محاولة جمالية ترقى تدريجيا عن المحكي اليومي لتصبح بناء إبداعيا. ( ص: 113 )  


 ـ ما هو الهاجس الذي يحكم الكتابة عن الذات بأشكال مختلفة؟ انه محاولة لانجاز مشروع متكامل عن الذات، لكنه مشروع منفتح على الدوام بسبب الشعور الدائم بعدم تحقيق الاكتمال المنشود ( ص: 153 )  ( أوراق وغيرها . عبد الله العروي )


 ـ إعادة تجنيس بعض نماذج الكتابة عن الذات باعتبارها نمطا جديدا سماه تخييلا ذاتيا باعتباره يخلق مسافة بين الذات وصورها المفترضة مع توليد انطباع لدى القراء بأن كل ما قيل عن الذات لا يمت بصلة إليها . ( ص:157 ) .( دليل العنفوان لعبد القادر الشاوي و مثل صيف لن يتكرر لمحمد برادة. ( ص: 17 )


تعقيب وملاحظات  :


بعد هذا التقديم أكتفي بالإشارة إلى أن الاهتمام بإعادة النظر في أشكال الكتابة عن الذات في الأبحاث المغربية اتصف منذ وقت مبكر بالجرأة والعمق وأن ما كتبه الباحث محمد الداهي في هذا الإطار هو تعميق متميز لمعظم الدراسات المتفرقة التي كتبت سابقا في الموضوع في الغرب والعالم العربي على السواء وقد كان لي حظ المشاركة في هذا الموضوع ابتداء من الثمانينات ببحث تحت عنوان طبيعة السيرة الذاتية وعلاقتها بالرواية ضمن الكتاب المنشور سنة 1986 تحت عنوان : في التنظير والممارسة. وحيث أني أعتبر أن كثيرا من الأفكار الواردة فيه لا تزال صالحة للتأمل في ظاهرة الكتابة عن الذات، فسأكتفي بالإشارة إلى بعض الملاحظات الواردة في هذه الدراسة ومعظمها يلتقي مع المنظور العام لمجهود الباحث ؟


ـ إن طرح سؤال إشكالي، منذ الثمانينات، كان مسألة ملفتة للنظر أمام الاعتقاد الراسخ لدى معظم المهتمين بالكتابة عن الذات بأن السيرة الذاتية تبني خصوصيتها من صدقها المرجعي أما السؤال الإشكالي فهو التالي :


هل هناك بالفعل إمكانية لكتابة السيرة الذاتية ؟


ميزة دراسة الباحث محمد الداهي تأتي بالذات من إعادة طرح هذا السؤال المهم بأشكال متنوعة في هذا الكتاب القيم. .


والواقع أن كل من يعيد النظر جذريا في طبيعة الكتابة عن الذات لابد أن يكون قد استحضر التحول الذي طرأ على مفهوم الذات في الدراسات الفلسفية والنفسانية على الخصوص. انه سؤال يعيد النظر أولا في صورة وطبيعة الذات الديكارتية التي تقول أنا أفكر إذن أنا موجودة . لم تعد الذات هي هي بل أصبحت هي غير هي، وقد عزز هذا التصور الجديد ما كتبه العالم النفساني سيجموند فرويد حين وضع مفهوما مركبا للذات الفردية التي تتصارع فيها القيم المتعارضة:


هكذا أصبحت الذات مجرد تركيب ولم تعد  وحدة نسقية منسجمة مع نفسها.


إن حالة ما كان يسمى بالوعي ما عادت واعية بكل خبايا الذات عندما تتبين أنها موزعة بين أهواء الهو وقيود الأنا الأعلى.


الأهم من ذلك كله هو أن الذات ما عادت واعية بكل خفاياها الخاصة وهذا يطرح سؤالا مثيلا للسؤال السابق : هل الأنا قادرة حتى على معرفة حقيقتها الخاصة ، وإذا كان لديها نقص في هذا الجانب فهو إشارة دالة على خلل ذاتي متأصل في تركيب الهوية  .


إن صورة الكائن الإنساني مع معطيات التحليل النفسي أصيبت بشرخ كبير أمام اكتشاف تجذر الحالة الانقسامية للذات نتيجة تصادم الغرائز الطبيعية مع اكراهات وضوابط المجتمع وما يتولد عن ذلك أيضا من قلق له صفة الاستقرار.


ومن جانب أخر بات مقررا في الدراسات الفينومينولوجية وما يرتبط بها من أبحاث أنطربولوجية حديثة أن الإنسان بسبب ذلك القلق الذي يعكس أزمة حقيقية في حصول تماسك الأنا يبدو دائم البحث عن أناه المفتقدة . وهذا ما يجعل جميع نشاطه الفكري والعملي موجها على الدوام نحو إثبات الذات وتأكيد حضورها المنفلت.


ويبدو لي أن الإنسان يشعر في كثير من الحالات أن وجوده الفعلي أصبح ضائعا في نقط التماس المتوترة القائمة في الذات بين متطلبات اللبيدو وزواجر الأخلاق والقوانين و الأعراف والقيم الاجتماعية. كما أنه يشعر على الدوام بأنه في حاجة ماسة إلى تأكيد حضوره وتعريف نفسه بنفسه ما دام أنه يشعر دائما بأنه لم يعد معرفا بما فيه الكفاية سواء من قبل نفسه أم من قبل الأشخاص الآخرين.


هنا يتولد الشعور الآسر بالحاجة إلى الكتابة عن الذات.لا من أجل تسجيل واقعها الملائم بل من اجل البحث عن انسجام مفتقد.. ولقد بدا لي أن الأستاذ الداهي قد عالج هذا الجانب العميق من جوانب طبيعة الكتابة عن الذات حين حلل  أعمال محمد شكري  التي جعلت كما قال (( الحقيقة السردية تندرج من " البوح المباشر " إلى  " تمويه الوقائع " كانت في البداية  شفافة ومحيلة إلى خارجها ، لكن سرعان ما أصبحت ملتبسة ومنطوية على ذاتها ـ وفي هذه الحالة الثانية أضحت أشد تعبيرا عن الهواجس والأحلام والاستيهامات . وأكثر تغورا في مجاهيل الذات وأغوارها.)) ( الحقيقة الملتبسة).


إنها إذن " الحقيقة الملتبسة"  تلك التي تتحرك فيها الكتابة عن الذات في معظم أشكالها حتى وان اعتمدت على التوثيق والشهادة، لأن المسألة هنا متعلقة في معظم الأحوال بتصورات عن الذات وعن الآخرين. والحال أن الإنسان يعيش نوعين من الإحساس بواقع الخفاء:


   ـ خفاء الذات عن نفسها


وخفاء الصورة الفعلية التي يعرفنا بها الآخرون فضلا عن خفاء الآخرين بالنسبة إلينا ( انظر ايزر: " التفاعل بين النص والقارئ" . ترجمة الجلالي الكدية . مجلة دراسات سال. عدد  7 . 1992.ًص: 8. )


في مثل هذه الحقول الخفية تتحرك الكتابة عن الذات ويتجلى ذلك بصورة أكثر إشكالية في السيرة الذاتية.


ويحق لنا أن نتساءل كما تساءل كاتب الدراسة عن الأهداف الواعية واللاواعية للكتابة عن الذات، هل هي مجرد تسجيل تاريخي لوقائع حياة كُتابها. لقد بين بما فيه الكفاية أن تعريفا للسيرة يقوم على مفهوم الصدق الحدثي لا يدرك عمق العلاقة المعقدة بين الذات وتاريخها المحكي لذا تعامل مع التعريفات التقليدية الشائعة بحذر شديد حين أشار بصريح العبارة إلى أن الكاتب (( يعلم... أن ما يقوله ليس كله حقيقيا ،وذلك لكونه اضطر لأسباب ودواع متعددة إلى اختلاق أحداث معينة أو حذفها أو تمطيطها، ومن ثم لا يراهن  على قول الحقيقة كما وقعت فعلا ، وإنما على خلق ذلك الانطباع لدى المتلقي حتى يكسب رضاه وثقته .)) ( الحقيقة الملتبسة ص: 15 )


يبقى أن أشير إلى أن معظم الكتاب الذين ساهموا في هذا النوع من الكتابات الذاتية لا يكون لديهم دائما وعي تام بأنهم لا يقولون الحقيقة، فلعل العكس هو الحاصل فهم في الغالب يخلقون عوالم وهمية ويصدقونها مع وجود بعض الاستثناءات الخاصة نرى فيها الكُتابَ وقد أدركوا أنهم حتى في الحكي عن حياتهم لم يبرحوا عوالم التخييل ومن هؤلاء عبد المجيد بن جلون  ومحمد شكري وعبد القادر الشاوي .


ولا يسعني في الختام إلا أن أقول بأن كتاب الأستاذ الداهي هو علامة متميزة من بين علامات البحث العلمي في نمط أدبي على قدر كبير من التعقيد والالتباس أرجو له مزيدا من النجاح و التألق.    


------------------


(*) د. حميد لحمداني، كلية الآداب ظهر المهراز. فاس


 


 


 



     

Powered by: Arab Portal v2.2, Copyright© 2009