شعرية التشخيص في المشروع السيرذاتي لمحمد شكري-د.محمد الداهي
رابط الصفحة :www.mohamed-dahi.net/news.php?action=view&id=85
الكاتب: mdahi


 حرر في الإثنين 07-06-2010 03:41 أ£أ“أ‡أپ

يحيل التشخيص إلى العلاقة الملتبسة بين الواقع الملموس وبين ما يؤول إليه الأمر من أدلة وصور تعجز عن تحديد الموصوف على حاله، " والتغلغل إلى أعماق ما لا يوصف، أو تشخيص " المرعب" الذي لا تطاوله الكلمات"([1]). وتولدت عن هذا الالتباس مفاهيم ( على نحو التشخيص، والتشخيص المضاد، والتشخيص الذاتي..) تبرز ألاعيب الكتابة في تمويه الواقع وتزييف حقائقه، وتتعامل مع النص الإبداعي ليس بوصفه " انعكاسا" للواقع أو " ترجمة" أمينة لحياة صاحبه، وإنما بكونه تشخيصا مغايرا لعناصر الكون، وتعبيرا عما تستضمره الذات من أحلام أو تطلعات محبطة، وحقائق ملتبسة وغامضة.




نوظف مفهوم التشخيص لبيان ملاءمته في تجديد الشكل، وفي تبني إستراتيجية المعيش أو التمرد عليها، وفي استجلاء الموقف من الإيديولوجية السيرذاتية.



1- تجديد شكل الكتابة عن الذات:



أصدر محمد شكري ثلاثة أعمال سيرذاتية تتضافر فيما بينها لرصد تجربة الذات في مواجهة صروف الدهر وتقلبات الحياة، ، وإبراز المجهودات التي بذلتها لاستكشاف مجاهل الكينونة، وإعطاء معنى للوجود، والتخلص من براثن الجهل والفقر المدقع، ومواكبة إحساساتها ومواقفها واستيهاماتها في فترات متعاقبة من زهرة العمر. وقد تبين من خلال الاحتمالات الحكائية للخبز الحافي وتصريحات محمد شكري ([2]) بأنه يمثل الجزء الأول من مشروع سيرذاتي متواصل . ومع ذلك لم يعلن عنه بوصفه ميثاقا للقراءة إلا بعد أن أصدر العمل الأخير، إذ أثبت في غرة غلافه بأنه يمثل الجزء الثالث من سيرتة الذاتية الروائية. وهكذا يعتبر امتدادا للعملين السابقين عليه. وإن ظهرت هذه الأجزاء في فترات متفاوتة (1982-1992-2000)، فهي تؤرخ لذات واحدة رغم تباين المغامرات والمواقف، وتنكب على الموضوعات المقدسة لدى محمد شكري (الجنس، الخمر، كراهية الأب، زيارة المقابر). واللافت للنظر أن هذا التفاوت الزمني انعكس على وتيرة المشروع السيرذاتي وأدائه، وأثر في شكله وطريقة استثمار المادة الحكائية وعرضها.




وهكذا اتخذ الجزء الأول صبغة قصة ترصد هجرة أسرة شكري من الريف إلى طنجة هروبا من المجاعة وبحثا عن "الخبز الكثير". لم تجد ما كانت تحلم به، فخاب ظنها. وهذا ما حفز الطفل محمد على اقتحام عالم الكبار لاهثا وراء "الطمأنينة المفتقدة" ومتوسلا بحيل الأمان والنجاة والبقاء. امتهن حرفا وضيعة ( نادل، خادم، بائع الجرائد، بائع الخضر، ماسح الأحذية، حمال، مهرب.) في مختلف المدن التي قضى بها قسطا من حياته (طنجة، تطوان، وهران) إشفاقا على والدته التي كانت تبيع الخضر لسد رمق العيش، وخوفا من الأب القاسي والفظ الذي يجبره على العمل للاستفادة من أجرته في إشباع نزواته الشخصية. إن ترعرع الطفل في لجة الحياة وصخبها مكنه من اكتشاف التناقضات الاجتماعية.


 ومن فرض وجوده في مجتمع مهمش يحكمه منطق القوة والغلبة، ومن إيقاظ شهواته المغفية للتلصص على مفاتن الجسد الأنثوي وتضاريسه وممارسة الجنس. كان للرسالة الوصية التي كتبها له حسن الزيلاشي أثر كبير على حياة شكري، إذ ستسعفه على التسجيل بمدرسة المعتمد بن عباد في العرائش رغم كبر سنه (كان -حينئذ-يبلغ من العمر عشرين سنة)، وتحفزه على تعلم الكتابة والقراءة الذين يمثلان بالنسبة له هوسا لا مثيل له، وتورطه في شرك المؤسسة الاجتماعية.
أما الجزء الثاني فهو جماع من المحكيات المتشذرة التي تعرض العينات السيرذاتية(autobiographèmes) بتقتير وتكثيف، وبسخرية وإيحاء أحيانا، وتقيم قطيعة بين حياة الصعلكة والتشرد والقذارة وبين حياة التحصيل والتعليم والأناقة، وبين هامش المؤسسة الاجتماعية وطقوسها وقوانينها المتواضع عليها. تضيء كل شذرة جوانب معينة داخل المحكي-الإطار، وترصد التحولات التي طرأت على حياة شكري لتحقيق طموحاته وانتزاع الاعتراف به كعنصر فاعل في المجتمع، وتكشف عن مجاهل الذات وهواجسها وأسئلتها المقلقة . وبما أن محمد شكري ركز على مساره التعليمي والعاطفي، فقد أعطى نظرة عن الجو التربوي والثقافي الذي كان سائدا في المؤسسات التعليمية، وأبرز طبيعة الكتب التي كانت تستهويه، وكشف عن استيهاماته ونزواته التي تبين علاقته الملتبسة بالمرأة.




ويتكون الجزء الثالث من بورتريهات لشخوص اقتسم معها الكاتب تجارب حياته بطنجة ( فاطي الساقية بحانة غرناطة، عبد الهادي الذي عاد مبتور اليدين من الحرب الهند-الصينية ، بابا دادي صاحب مطعم وحانة بطنجة، ماجدولينا المنيعة التي تحتفظ بمجدها في ممارسة الجنس مع الأجانب، والتي لم تستسلم لنزوات السارد إلا بعد أن بدأ جسدها يترهل نتيجة كبر سنها([3])، حمادي القمارالذي يقامر لإرضاء غروره ولذته في الربح، فريد الذي يأتي مرة كل شهر إلى حانة نيجريسكو لصرف جزء من حوالته على من يؤنسه في وحدته ويصغي إلى أحاديثه الرتيبة، منصف المتخصص في نقل ونشر أخيار الموتى، قيرونيك التي قضى معها السارد أياما جميلة ثم قرر -كعادته مع النساء- إيقاف مغامرته مها ([4])). ويخصص محمد شكري الفصل الأخير من سيرته الذاتية لاستكشاف ملامح وجهه الذي يجسد "أحلامه السحرية"، ولمحاورته في مختلف تقلباته وانفعالاته عبر الفصول والأزمنة، وللكشف عن أسرار " الصنعة الإبداعية" .وفي هذا العمل يبرز حذق محمد شكري في إضفاء طابع التخييل على تجربته الشخصية، وترك أحلامه تصنع عالمها دون قيد أو مراقبة، والمواءمة بين الذاتي والموضوعي، وبين الحلم واليقظة، وإثارة أسئلة نقدية عن "الكتابة عن الذات" وحول المفهوم التقليدي للسيرة الذاتية. " سيبقى مني رمزي وليس حياتي" ، " الصراحة المطلقة إعدام لكل احتمال للتوافق"، " عندما أعترف بصريح ما أعرفه عن الأشخاص وصريحة ما أعرفه عن الأشياء أكون قد خلقت عدوا لا أعرف متى يثأر مني ولو في الوهم"، " الصراحة ليست دائما أم الحقيقة. ما يشدني إلى واقع ما هي الفكرة المبهجة التي أكونها عنه والغواية التي يستطيع أن يواجهني بها"ص153.



 



2-إستراتيجية المعيش ونقيضها:



يحتفي الجزء الأول والثاني ب"المعيش". ومما جعل دائرة القراء تتسع هو اعتقادهم بأنهما يمثلان" نسختين مطابقتين لما عاشه الكاتب"، و" يقدمان انطباعا عن الحياة"([5])، وبأن " علاقة النص بما يصدع به هي علاقة المشابهة، وليست علاقة الإنتاج"([6]). وتنبني "استراتجية المعيش" في الجزأين معا على ما يلي:



ا- " لا يكتب محمد شكري بقوة عن تجربة حقيقية، وإنما يكتب بالقوة التي تمنحه له التجربة الحقيقية" ([7]). وهي تجربة مثيرة وغنية وفريدة وقاسية عرف صاحبها كيف يشخصها ب"البراءة الأدبية"، وكيف يخرج من مختلف أطوارها منتصرا ومتحديا ومتشبثا بحب الحياة. إن سيرة شكري لا تقدم عبرة أو قدوة للتسنن بها، وإنما تعرض تجربة استثنائية تغري قراء من شرائح مختلفة لقراءتها من أجل الاستمتاع بمغامرات السارد وهو يكد لإثبات ذاتـــــــه " وسط قوانين يحكمها منطق القوة واللذة وبريق المال" ([8]).



ب-يضطر محمد شكري في بعض الصفحات إلى وضع هوامش لشرح بعض المفردات، واستدراك بعض الأحداث، والتعليق على واقعة معينة، والتعريف بشخصية أو مكان ما. وأحيانا يفتح أقواسا لشرح مفردة قد يجد القارئ العادي صعوبة في فهمها. ويتوخى من هذا الصنيع تذليل المعجم القاعدي لتوسيع دائرة القراء، وضمان تداول مشروعه السيرذاتي ومقروئيته.



ج-يحكي محمد شكري سيرته الذاتية بلغة بسيطة مستمدة من الصياغة الشفهية، ومن رواسم و قوالب الكلام اليومي. " ولا يعنى بالكلام اليومي ما هو "مشترك" و"فظ"، بل هو استعمال خاص لأنظمة الشفرات الثقافية على مستوى سيرورة التواصل. فالنص الذي يحتفي بالكلام اليومي ينزع -بواسطة الوسائل الخطابية المشغلة-إلى التحدث كالجمهور، والاستجابة إلى حاجاته المستضمرة، وملاءمة أفق انتظاره على الوجه الأحسن"([9]). يستمد الكلام اليومي حركيته داخل الجزئين من تفتيت اللغة الواحدة والآمرة، وتجميع الرطانات المهنية والأساليب التعبيرية في نسق أدبي منسجم، وهتك حجاب المحظورات والمحرمات، وإضفاء الشرعية على ملفوظات الفئات المهمشة (المومسات، الحمالون، مهربو المخدرات، العاطلون، بائعو الخضر) وتوظيفها في سياقات جديدة مع الحفاظ على أصالتها الأسلوبية وعيناتها الإيديولوجية.



تخلى محمد شكري في العمل الأخير عن "إستراتيجية المعيش" ليتبنى "إستراتيجية التشخيص المضاد" ( l'anti-représentation). وهكذا لم يتعامل مع السيرة الذاتية بوصفها "تشخيصا للواقع" أو " منافسة للحالة المدنية" أو" وساطة بين القارئ والحياة الحقيقية"([10])، وإنما بكونــــها "أدبــــا للإنتاج" ( la littérature de la production)، و"بناء وإبداعا للنصي" ( la création du textuel)([11]). ويمكن أن نجمل تجليات التشخيص المضاد فيما يلي:
ا- يتخذ محمد شكري في مقاطع حكائية مسافة إزاء ذاته لمعاينتها وتفحصها من خلال وجوه تعرف عليها بحانات طنجة . ويتعامل معها كمرايا([12]) لحرف استيهاماته وأحلامه وإحساساته ومواقفه. ونظرا لتداخل الواقعي بالتخييلي، وتشابك الذاتي بالموضوعي فإن هذه الوجوه تبدو كما لو كانت شبيهة بشخوص الأحلام التي " تملك مفاتيح حياتنا السرية"([13]).
ب-يبدو في العمل الأخير نضج شكري في التشخيص الأدبي للواقع، ولملمة خيوط الصنعة الحكائية التي تتشخص بعض معالمها في الاقتصاد في اللغة والحكاية والمراهنة على دور المتلقي في ملء البياضات والفرجات، وفي إضفاء التخييل على الوقائع المعيشة إلى حد الالتباس ، وفي وضع الكتابة نفسها موضع تساؤل وتأمل وبناء عوض التضحية بها في محاولة إعادة إنتاج الواقع. ورغم تحقق طفرات في حياة شكري، فإنه يظل على ما هو عليه، محافظا على "معدن شخصيته". وهذه سمة جوهرية تميز نموذجا من الأعمال التخييلية التي تجهل الصيرورة وتطور الإنسان( وضمنها طبعا الرواية الشطارية).



ج-يخلف الجزء الثالث أثر الإبهام effet d'ambiguïté في القارئ. ومرد ذلك إلى " الشك الذي يساوره في تحديد موقع السارد بالنظر إلى ما يحكيه"([14]). ويتجلى ذلك الأثر على المستوى التلفظي والمستوى الحكائي.
فعلى المستوى التلفظي، نجم عن مزاوجة الكاتب بين الكتابة عن الذات والكتابة عن الآخرين فقدان ضمير المتكلم لسلطته وهيمنته وانحسار دائرته داخل الحكي. وعلى المستوى الحكائي يتداخل التخييلي والحقيقي، والحلم واليقظة، ويمتزج الحكي الاستعادي بتأويلية اليومي ومشاغله وبإرهاصات المستقبل.



3-تزييف الواقع :



يعتبر محمد شكري من دعاة الإيديولوجية السيرذاتية، تتبناها فئة من الكتاب رغم تباين تصوراتهم حول طبيعة العلاقة التي تربط المتكلم بخطابه. وإن اختلف الكتاب في التعامل مع الإيديولوجية السيرذاتية، فهم يتفقون على عدم اعتبار " محكي الحياة" نسخة مكرورة من الواقع. ويمكن أن نستشف موقف محمد شكري من الإيديولوجية السيرذاتية انطلاقا من النص الموازي والنص الواصف.



1-على مستوى النص الموازي: جنس محمد شكري كل جزء من الأجزاء الثلاثة بالتعيين الجنسي الذي يراه ملائما. جنس الجزء الأول والجزء الثالث ضمن السيرة الذاتية الروائية، وأدرج الجزء الثالث ضمن خانة الرواية. إن الميثاق السيرذاتي ليس وصفة جاهزة يتلقاها القارئ بسلبية وسذاجة، بل يشغل معارفه ومؤهلاته الذهنية لقبول ما يراه مناسبا ويرفض ما يجانب الحقيقة. ويمكن أن نقدم التبريرات الآتية للتعيينات الجنسية المثبتة في أغلفة الأجزاء الثلاثة:



ا-يحترس محمد شكري من تصدير أعماله بالسيرة الذاتية فحسب خشية أن يكون لها مفعول سلبي لدي المتلقين المفترضين. فهي تقترن في مخيلة شريحة واسعة من الناس بالجنس الديمقراطي البسيط الذي لا يكترث بالتخييل وبألاعيب الكتابة.



ب-يتعذر على الذاكرة استرجاع ما وقع بحذافيره وعلى حاله. فهي تنسى أحداثا وتقصي أخرى([15])، وتنظر إلى الأشياء الماضية بمنظور جديد، وتلونها بتلوينات دلالية وانفعالية تلائم تجدد الظروف وتغيرها. وهذا ما يجعل السيرة الذاتية مجافية للحقيقة. وفي هذا الصدد" كان جوته محقا - كما قال موروا- حين سمى سيرته " الشعر والحقيقة" إشارة منه إلى أن حياة كل فرد إنما هي مزيج من الحقيقة والخيال"([16]). وهذا ما أكدته سيمون دي بوفوار في نهاية كتابها مذكرات فتاة رصينة بقولها: " هذه الحكاية الرائعة حكاية حياتي الماضية، كلما أمعنت في روايتها لنفسي ازدادت زيفا"([17]). ومن ثمة يتبين أن تركيز محمد شكري على الجانب الروائي إنما قصد به إبراز وهم الحقيقة والصدق وزيفهما في الكتابة السيرالذاتية.



ج-قد ينبني التمييز بين السيرة الذاتية والرواية على أساس معايير ملتبسة ، على نحو التخييل واللاتخييل، الحقيقة والكذب، الذاتي والموضوعي، الشهادة التاريخية والشهادة الإنسانية، العميق و السطحي، والمتعدد والمبسط. إذا كانت السيرة الذاتية تتضمن أحداثا خيالية، فان الرواية- بدورها- تتوفر على عيينات سيرذاتية. وهناك من يرى أن الرواية لها القدرة على تشخيص الحقيقة أكثر من السيرة الذاتية، وذلك بحكم أنها متحررة من سلطان الرقابة، وغير محترسة من إيذاء أشخاص من لحم ودم. وهكذا يعتبر فرنسوا مورياك "أن التخييل هو وحده الذي لا يكذب، إنه يشق بابا سريا في حياة إنسان ما، تلج منه روحه المجهولة في منأى عن المراقبة"([18])، ويسير أندريه جيد في المنحى نفسه بقوله " حان الوقت لأصدع أخيرا بالحقيقة لكن ذلك لا يمكن إلا في عمل تخييلي"([19]).




2-على مستوى النص الواصف: تتخلل المشروع السيرذاتي نصوص نقدية واصفة تجلي موقف شكري مما يكتبه، وتبين وعيه بدور الكتابة في تشخيص المادة الحكائية.




ا- أشار في الصفحة 118 من الجزء الثاني أنه يكتب فصولا من سيرته الذاتية عام التسعين. ولما شاهد المستشرق الياباني نوتاهارا (إبان إعداده ترجمة الخبز الحافي) الصهريج، علق عليه بأنه لم يظهر جميلا على النحو الذي وصفه به محمد شكري في الجزء الأول من مشروعه السيرذاتي. ورد عليه شكري بقوله: " هذه هي مهمة الفن: أن نجمل الحياة حتى في أقبح صورها. إن هذا الصهريج انطبع في ذهن طفولتي جميلا فلا بد لي من أن أستعيده بنفس الانطباع حتى ولو كان بركة من الوحل. ثم أنني كنت بعيدا عنه زمنيا" ( الصفحة نفسها).



 



ب- يحاول محمد شكري إزاحة الغيوم عن الطفولة المستعادة لعله يدرك بعضا من أسرارها وذكرياتها الهاربة، ويعترف بصعوبة استرجاع مواصفات القرية التي ترعرع في كنفها وسحنات الشخصيات التي تعرف عليها بعد أن استحال كل شيء إلى أشباح، بما في ذلك صورته." وإذا كنت اليوم أعتز بأن أكون شاهدا على طفولتي وطفولة أمثالي فلأنني أحاول، في معظم كتاباتي، أن أستجلي الملبد فيها؛ إذ كل حياة إنسان لها غيومها، بعضها ينقشع وبعضها يبقى في السديم. كذلك هي كل طفولة. إن قرية طفولتي لم يعد لها وجود حتى في ذاكرتي: شاشة مشوشة، تتشبح عليها صورتي وصور الآخرين والأشكال التي لا شكل لها... لا يمكن معرفة كل شيء عما يمكن أن تؤثر به طفولة الكاتب على كتاباته! فهو يكتب طفولته من خلال رجولته ونضجه. إنه يحوم حولها؛ لأن كل طفولة هي رهينة برجولتها. والطفل "الطفل" لا يفهمه إلا الطفل"([20]).



نكتفي بهذين المقطعين الحكائيين اللذين يبينان أن محمد شكري-وإن استغنى عن ذكر الرواية- فقد ظل وفيا لتصوره المضمن في النصوص الموازية. إن الروائي مضمن في كتابته بدعوى أن الصدق في السيرة الذاتية قضية زائفة و" محاولة لا أمراً محققا"([21]). ومن الحوائل التي تحول دون تحقق الصدق في السيرة الذاتية يذكر محمد شكري أساسا مسألتين:
ا-ينجم عن النسيان الطبيعي استحضار أحداث على حالها، أو تذكر ما عشناه في الطفولة أو وصف سحنات شخوص تلاشت وبهتت مع مر الزمن. ليس قصد الكاتب التدليل على ما عاشه فعلا كما لو كان يكتب محضرا أو وثيقة. يعرف محدودية الذاكرة في استحضار تجارب الحياة وملء ثقبوها وبياضاتها، ويعي بأنه مهما طاوعته اللغة فليس بمقدورها نسخ الواقع. فما توخاه محمد شكري من وصف الصهريج هو إضفاء مسحة من الجمال عليه، واسترجاع الانطباع الجميل الذي خلفه في نفسه لما كان طفلا. ونظرا للمسافة الزمنية التي تفصله عنه، فقد نسي كثيرا من مواصفاته أو ربما مزجها ولقحها بمواصفات أشياء أخرى. وفي عملية الهدم والبناء، يندرج الصهريج في علاقات وسياقات جديدة، مما يكسبه كينونة خاصة وحركية مغايرة داخل حياة الحكاية. وهو ما يضفي التخييل على "محكي الحياة".




ب-لا نذكر من عهود الطفولة إلا النزر القليل. فلا يمكن أن يتحدث عن الطفل فينا إلا الطفل الذي كناه. أما من تعمقت الهوة بينه وبين طفولته، فسيجد نفسه أمام فرجات يصعب عليه ملؤها إن هو لم يستعن بوالديه أو شهود عيان أو بوثائق. ومع ذلك فإن من يستحضرها سيتصرف فيها خدمة لمآربه ، سيغيب حقائق ويزيف أخرى حسب ما تمليه عليه مصلحته. وهكذا ينبغي لكل كاتب للسيرة الذاتية " أن يعترف إن عاجلا أو آجلا بعجزه عن التعبير عن الحقيقة"([22]). وبما أنها مزيفة ونسبية، فهي تبرر تداخل الروائي والسيرذاتي، وتؤكد - حسب تعبير فليب فابرو Vapereau- بأن السيرة الذاتية تطفح بالاستيهامات، وليست ملزمة قطعا بنقل الأحداث بدقة أو بقول الحقيقة المطلقة. وهذا ما يميزها عن المذكرات والاعترافات." تترك السيرة الذاتية مجالا واسعا للاستيهام. ومن يكتبها ليس ملزما قطعا بأن يكون دقيقا في نقل الأحداث كما هو الشأن في المذكرات، أو بأن يقول الحقيقة المطلقة على نحو الاعترافات"([23]).




مما تقدم نخلص إلى ما يلي:



 



 



 



 




1-تبنى محمد شكري إستراتيجية المعيش لإبراز استثنائية الأحداث التي عاشها والمغامرات التي اضطلع بها، ثم تمرد عليها بتجريب كتابة ملتبسة تضفي التخييل على تجاربه الشخصية، ويمتحن فيها قدراته على نحت لغة يتوسل بها اكتشاف مجاهيل ذاته وتقويض الميثاق السيرذاتي ( الصدق، الأمانة، المطابقة، الإحالة..).



2- يعد محمد شكري من أنصار الإيديولوجية السيرذاتية الذين ينسبون الحقيقة، ويعترفون بعجز اللغة عن تشخيص الواقع، ويراهنون على دور الذاكرة والكتابة في تحوير الواقع وصوغ أسئلة جديدة لإعادة النظر في العلاقة بالماضي والتاريخ والمجتمع و الإنسان.



 


 


 


----------------------------------------------------------


الهوامش:
[1] -محمد برادة، فضاءات روائية، منشورات وزارة الثقافة، ط1، 2003.
[2] -يقول محمد شكري:" لقد كتبت الجزء الأول من سيرتي الذاتية في زمن مبكر لبعض الأسباب:
-لم أكتبها بالمفهوم التقليدي المتسلسل تاريخيا الذي غالبا ما تكون له علاقة بالنتاج الأدبي الذاتي والموضوعي.
-أعتبرها سيرة ذاتية روائية.." ، محمد شكري، " مفهومي للسيرة الذاتية الشطارية"،الآداب ، عدد خاص عن الرواية العربية الجديدة، 1980، العدد 2-3-ص111.
و يثبت الملاحظة نفسها في الخبز الحافي " : " مثل هذه الصفحات عن سيرتي الذاتية، كتبتها منذ عشر سنوات ونشرت ترجمتها بالإنجليزية والفرنسية والإسبانية قبل أن تعرف طريقها إلى القراء في شكلها الأصلي العربي" ص4، ثم في" زمن الأخطاء" " ما زلت أمارس هذه العادة حتى اليوم. بعض كتاباتي- منها الجزء الأول من سيرتي الذاتية: الخبز الحافي- وهذه التي أكتبها اليوم، كتبت فصولا منها في المقابر اليهودية، والنصرانية، والإسلامية" ص42
[3] -لم يلح السارد على ممارسة الجنس معها إلا شوقا إلى ذلك اليوم الذي رفضته فيه . "أما الآن فلا أطمح إلا إلى دفء حنيني يذكرني بذلك اليوم الذي كنت فيه وحيدا أو أردت الليلة أن أعانق جسدا بحب أو مجرد دفء ولمسات وهمسات و وجود جسد لصق جسد حتى أشعر بوجودي" وجوه ،ص 73.
[4] - " فيرونك، عودي إلى أمك ودراستك. عودي إلى نفسك أو إلى ما شئت بعيدا عني ولم نعد نتراءى أو نتهاتف أو نتراسل. لا أعلم اليوم أهي حية أم ميتة" وجوه ص145.
Lejeune (ph)Je est un autre l'autobiographie de la littérature aux médias, Seuil ,1980,p206.-[5]
[6] -ibid p 205.
[7] -ibid p 209.
[8] -محمد برادة،" الخبز الحافي : سيرة لقراء الذوات المغيبة"، أسئلة الرواية أسئلة النقد، منشورات الرابطة،ط1،1996،ص89.
[9] - ترجمنا Trivialité بالكلام اليومي تبعا للسياقات التي أطرتها في الكتاب أسفله. وهي تحيل إلى الكلام الشفهي والمعتاد والروسم والإجماع. وتقترن بمصطلحات غير ملائمة، على نحو: " الأدب الشعبي" و" العبر أدبية"، و "الأدب الجماهيري". وتجنبنا ترجمتها بالمبتذل والسوقي لتضمنهما معاني قدحية.
Pierre Van Den Heuvel , Parole Mot Silence Pour une poétique de l'énonciation, Librairie José Corti, 1985, p55
[10] - كان محمد شكري واعيا بهذا الاختيار ومفروضا عليه لاستبعاد فكرة الانتحار والتخلص نسبيا من الندوب التي تركتها في نفسيته التربية التي تلقاها، ولمواكبة المشاكل الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع المغربي. وفي هذا الصدد يقول شكري : " إن ما كتبته في هذه السيرة أعتبره وثيقة اجتماعية، وليس أدبا عن مرحلة معينة آثارها السيئة ما زالت تنخر مجتمعنا"، الآداب، م.سا ص111. " السر يكمن في أن الخبز الحافي كتب أصلا ضد الأدب. لو لم أكتبه لأصبت بالجنون أو لانتحرت. كنت خارجا للتو من حياة صعبة. دعارة، تهريب ومخدرات. ثم الندوب التي خلفتها في نفسي التربية السيئة التي تلقيتها من والدي الذي كان يضربني أنا واخوتي. "الخبز الحافي" كان علاجا لي. به استعدت توازني النفسي »، " خليل طنجة ومؤرخ متاهاتها يحلم يقتل أسطورة الخبز الحافي"، زوايا، العدد 4-5، 2003، حوار أجراه ياسين عدنان،ص/ص18-13.
[11] -أخذنا العبارات الموضوعة بين المزدوجات من كتاب:
J.P.Goldenstein, Pour lire le roman, Deboeck-Duculot,1989,pp18,20.
[12] - يصدر محمد شكري الفصل الأخير بهذا الملفوظ " لم تكن لدينا مرآة في الدار، لأن لا أحد منا كان يريد أن يرى وجهه فيها" وجوه ص 147. يتبين من هذا الملفوظ أن شكري يستغني عن المرآة ربما لأنها لا تظهر إلا الملامح الظاهرة. في حين هو يريد أن يرى ما تخفيه ذاته من أحلام واستيهامات. وهذا لايتأتى إلا باتخاذ وسائط أخرى على نحو الوجوه.
[13] -وجوه، ص156.
[14] -Lejeune (ph) , Le pacte autobiographique, Seuil ,1975,p166.
[15] - يقول برليوز : " لن أقول إلا ما يحلو لي أن أقول". وتقول سيمون دي بوفوار " سوف أتعمد إهمال الحديث عن أشياء كثيرة
جورج ماي ، السيرة الذاتية، تعريب محمد القاضي وعبدالله صولة، بيت الحكمة، قرطاج،1992، ص95.
[16] -إحسان عباس، فن السيرة ، دار الثقافة، بيروت ، لبنان،ط5،1981، ص114.
[17] -جورج ماي، السيرة الذاتية، م.سا ص94.
Lejeune (ph) , Le pacte autobiographique ,op.cit p41.-18]
[19] -Ibid p42.
[20] -وجوه، م.سا ص-ص148-149.
[21] -إحسان عباس، فن السيرة، م.سا 113.
[22] جورج ماي، السيرة الذاتية، م.سا ص93.
[23] -
Lejeune (ph), Moi aussi ,Seuil 1980,p18-19.


 


 


 


 



     

Powered by: Arab Portal v2.2, Copyright© 2009