سيمائية الكلام الروائي. إعداد عبد المولى بنمالك(1 )
رابط الصفحة :www.mohamed-dahi.net/news.php?action=view&id=10
الكاتب: mdahi


 حرر في الجمعة 18-12-2009 09:17 أ£أ“أ‡أپ

لقد ظلت السيمائية متحفظة من النزعة اللغوية، وهذا ما جعلها تعتبر الخطاب أثرا من الآثار الممكنة للنظام الطاقي الداخلي أو الخزان اللغوي المفترض. لكن نتيجة انفتاح السيميائية على المكتسبات التي راكمها تحليل الخطاب والتداولية والتلفظ، أصبح السيميائيون يولون أهمية للظواهر الخطابية التي تهم بلاغة الخطاب ومساراته الصورية. وفي هذا الإطار يدخل مشروع الباحث محمد الداهي للتدليل على استقلالية البعد الكلامي داخل النظرية السيميائية. وهذا ما يقتضي تصنيف وحداته، وتصنيف تمظهراته الدلالية والمعجمية، وإبراز جهاته وبرامجه الحكائية وبنياته العاملية، واستنتاج أنساقه الصغرى والكبرى..الخ. لقد حتم هذا المشروع على الباحث أن يتحرك على أرضية تلفظية، والتعامل مع التلفظ بوصفه فعلا سيميائيا يكشف عن هوية المضطلع به، وباعتباره أثرا تلفظيا يميط اللثام عن ذاتية المتلفظ غير المصرح به، وعيناته الإيديولوجية، وانفعالاته وأهوائه. اعتمد محمد الداهي على متن مكون من أربع رويات صدرت خلال مطلع التسعينات من الألفية الثانية. وهي ذات لصنع الله إبراهيم، والضوء الهارب لمحمد برادة، وبرج السعود لمبارك ربيع، و شطح المدينة لجمال الغيطاني.


لم يكن ألجيرداس جوليان كريماص مطمئنا على استمرار السيميائية مستقبلا. وإثر انعقاد مناظرة سيميائية الفضاء سنة 1973، أبدى تخوفه من انحسار التقليعة السيميائية بعد ثلاث سنوات على أكبر تقدير. لكن وقع عكس ما توقعه، إذ اتعست دائرة الإشعاع السيميائي في مختلف بقاع العالم، واستطاعت أن تتكيف مع المستحدثات المعرفية والمنهجية. وفي تقويم محمد الداهي للتاريخ السيميائي لاحظ أنه يتدرج في سيرورة عمودية وسيرورة أفقية.


في السيرورة العمودية، تنشطر السيمائية إلى مرحلتين: سيمائية العمل Sémiotique de l'action، ثم سيميائية الأهواء Sémiotique des passions. ويندرج مبحث محمد الداهي في إطار إضافة حلقة جديدة تتعلق بمشروع سيماسية الكلام.


وفي السيرورة الأفقية، تندرج تحاليل ومقاربات متعددة. إما تعاملت مع السيميائية بطريقة مدرسية، أو تقيدت بمستوياتها ومكوناتها حرفيا، أو فتحت السيمائية على آفاق منهجية ومعرفية جديدة.


ومن خلال السيرورتين معا، يتضح أن السيميائية مفرد بصيغة الجمع، وأنها ما فتئت تتطور تبعا لتجدد الأسئلة، وباين الفرضيات المنطلق منها.  ولا أحد يدعي بأنه يملك القطعة الأخيرة ل" لمربكة الشاسعة". إنها الصورة التي أثارها كريماص سنة 1976." أعتقد أنا، والمتعاونين معي، بأننا نملك قطعا عديدة قادرة على بناء هذه المربكة الشاسعة التي يمكن أن تكون هي النحو الخطابي. ما يتعدى ذلك هو من باب التضليل".


وإن ركز محمد الداهي على الكلام الروائي ، فإن الأمر قد تطلب منه الاستعانة بالمعاجم لضبط التمظهرات المعجمية والدلالية لوحداته الكبرى المهيمنة، والاستئناس بأنواع خطابية أخرى ( القرآن الكريم، الحديث النبوي، الشعر، الصحف) لاستنتاج الأنساق الصغرى والكبرى والخطاطة التحدثية. وفي عملية التخطيب يتأكد ما إذا انضبط الكاتب للخطاطة الأصلية أو أنه أضاف إليها عناصر جديدة.


وإذا كان هم الباحث منكبا أساسا على الكلام العربي بما يحفل به من خصوصيات وإيحاءات ثقافية وأكسيولويجة، فإن المنهجية المتبعة قابلة للتشغيل والتعميم على كلام آخر. وهكذا يتضح أن بحثه ذو طبيعة منهجية لوصف الكلام وإعادة سميأته، ثم إثارة قضايا معرفية تهم موضعة الكلام ضمن ديناميتي العمل و الهوى:


ا-سيميائية العمل:


 تستمد هذه السيميائية نسغها من دينامية البرامج الحكائية وحالات الاتصال والانفصال، ومن الشروط التي ينبغي للذات أن تتوفر عليها حتى تنفذ عملها (أهليتها، إنجازها، منزلتها النمطية، أدوارها المتباينة، أنماط وجودها).


ب- سيميائية الأهواء:


 إذا كانت  الاختصاصات أغلبها تعتني بالأهواء من الزاوية الموضوعاتية والتصنيفية، وتبين أهميتها بالنسبة للكائن البشري؛ فإن السيميائية تدرسها خصيصا لإعادة بنائها . وهذا  ما استدعى منها التدليل على استقلالية البعد الانفعالي(Dimenssion thymique) داخل النظرية السيميائية، وتحديد مجال دراستها ( الحالة النفسية)، وبيان من تتضمنه الوحدات الاستهوائية(pathèmes) من جهات، وبرامج حكائية، وخطاطات مقننة، وأدوار استهوائية (pathémiques)، وإيحاءات ثقافية وأكسيولوجية. وما يسترعي الانتباه أن المصادر السيميائية درست الأهواء من زاوية تلفظية تعيد النظر في التصور السيميائي للخطاب والتخطيب، وتنشط من جديد مفهوم الذاتية ليستوعب العينات الاستهوائية أو علامات الإحساس بوصفها آثارا خطابية.


2-الجانب التطبيقي:


يتوخى  الجانب التطبيقي التدليل على استقلالية البعد التحدثي داخل النظرية السيميائية العامة ، وإرساء دعامات سيميائية الكلام وتمييزها عن سيميائيتي العمل والهوى. ولتحقيق هذا الغرض انكب محمد الداهي على ما يلي:


1- التمظهرات المعجمية و الدلالية للبث:


خصص الباحث  هذا الفصل  لاستجلاء وتحليل التمظهرات المعجمية-الدلالية لوحدة البث المتواترة في رواية ذات. وبعد أن أبرز معانيها المعجمية، وما تستتبعه من جهات ووجهات وبرامج ومسارات تلفظية وعلائق تركيبية، استقرأ بعض تجليات تخطيبها في القرآن الكريم والشعر والواقعة الصحفية ؛ وذلك بهدف فهم التمظهر في كليته، ورصد الخطاطة التركيبية التحدثية القابلة للانسحاب على وحدات أخرى. ولما تفحص مختلف استعمالاتها في رواية ذات، تبين لنا بأنها تقترن بمقوم الإرسال الذي فرضته وسائل الإعلام، وجعلته بديلا للمقومات المتعارف عليها: [+التفريق]، [+الذر]،[+الاطلاع]،[+النشر].


2-التمظهرات المعجمية و الدلالية للحديث والشكوى والطلب:


حلل روايات أخرى من المتن نفسه ( الضوء الهارب، برج السعود، وشطح المدينة) للتأكد من صحة النتائج المتوصل إليها، ومن إجرائية المفاهيم المشغلة وسدادها. وهكذا حلل الوحدات الكلامية المهيمنة معجميا ودلاليا، ثم بين جهاتها ووجهاتها وأدوارها التحدثية وبرامجها وأنساقها ومقاطعها الصغرى، ثم توقف عند مدى انضباطها للخطاطة التحدثية المقننة التي استخلصها من وحدة البث.


3-التطويع التلفظي في رواية ذات:


منح الباحث في هذا الفصل منزلة سيميائية للتطويع التلفظي، ثم حدد المرتكزات التي يستند إليها ( الأفعال اللغوية، الجهات التحدثية، تقنية الإيضاح، والمشروع الكلامي). فالكلام يكون في البداية عبارة عن مشروع ( الإخراج المقاصدي، والسيناريوهات الممكنة)، ثم يتحقق في شكل استراتجيات خطابية محددة، ثم يمر عبر سيرورة تحدثية مراهنة على تطويع المتلفظ له وحمله على تصديق ما يبث له. وفي حالة ما إذا كان هذا الأخير واعيا بمناورات المتلفظ، فسيجد نفسه مضطرا لاستخدام دهائه وكفايته اللغوية لإحباطها ( التطويع المضاد).


4-التطويع التلفظي في الروايات الحافة([1]):


جرب محمد الداهي في هذا الفصل أوليات التطويع التلفظي على الروايات الحافة للتأكد من إجرائيتها ومرونتها. وقد فرضت عليه خصوصية كل عمل على حدة أن يتوقف على ثوابت التطويع ( الإخراج المقاصدي، جهة الحمل على الاعتقاد، البعد الاستيثاقي، وتغيير معتقدات المتلفظ له) ومتغيراته (تبادل الأدوار التلفظية، تفاوت الفواعل في استخدام الجهات التحدثية، تمرير الحجج في الخطابات غير المباشرة، وإعادة تنشيط البنيات اللغوية للمتخيل الجماعي..). ويتعزز التطويع التلفظي بالانفعالات ، وينسجم مع الشروط المقامية ومقتضياتها ليؤدي الوظيفة المنوطة به على الوجه الأحسن. ففي حالة تجرده من الانفعالات الملائمة، فإنه غالبا ما ينزاح من الدلالة الصريحة إلى الاستلزام الحواري. وفي حالة انتفاء الشروط المقامية التي تؤطره، فإنه يصبح مجرد لغو وصخب صبياني.


5-المقاطع التحدثية في رواية ذات:


 ظلت خانة فارغة تتخلل  الصوغ الفاعلي، وتنتظر أن يشغلها مالكها الحقيقي. وهي تتعلق بالمقاطع التحدثية التي تسعف على تفريد الفاعل، وإبراز انتماءاته الاجتماعية وانفعالاته ، والكشف عن هويته وموقفه من الوجود. وهذا ما استدعى من الباحث -في إطار تشييد مشروع سيميائية الكلام- التعريف بهذه المقاطع ( الكلام النمطي، اللغة الفردية، اللغة الاجتماعية)،  وإبراز تجلياتها وتضاريسها في رواية ذات ، وبيان ما يميز الدور التحدثي من الدور الموضوعاتي.


6- المقاطع التحدثية في الروايات الحافة:


حرص محمد الداهي من مقاربة المقاطع التلفظية  على إبراز مكانتها السيميائية، وتبيان ما أضفته الروايات الحافة من طابع خصوصي عليها. وبعد الفراغ من تحليلها خلص إلى ما للتشخيص الأدبي للغة من دور في توسيع البعد الحواري، وإغناء الفضاء الروائي بالعينات الإيديولوجية، واستحضار النزوع الديمقراطي الذي فرضته التقلبات العالمية الجديدة بعد انهيار جدار برلين، والتدليل على الأهمية التي يحظى بها الدور التحدثي لتغيير معتقدات المتلقين، وتحريك البرامج الحكائية، ونقلها من المستوى المجرد إلى المستوى الملموس.


7-تجليات الصورية في رواية ذات:


حظيت الصورية (Figurativité) - إلى جانب الأهواء والتلفظ- باهتمام السيميائيين في السنوات الأخيرة. ومنح لها  محمد الداهي منزلة خاصة بعد الإفادة من تصوراتهم. في البداية أبرز مكانتها  في بعض المصادر السيميائية، ثم بين ما يميز الصوري من الموضوعاتي، ثم استشف تجليات الصورية في رواية ذات من خلال قطبي الأيقوني و المجرد، والبعد الأكسيولوجي. وتتمثل المنزلة التي أعطيت لها في تبيان آثار التلفظ والإيحاءات الأكسيولوجية، وإظهار القيمة التي تستمدها الصور من طبيعة الطقوس الاجتماعية والإبدالات السياسية وجدلية الجنس الروائي.


8- تجليات الصورية في الروايات الحافة:


نوسع دائرة الصورية لتشمل الروايات الحافة، وذلك لمعاينة المؤتلف والمختلف من تجلياتها، وما تستتبعه من علائق ( علاقة الصوري بالموضوعاتي، علاقة الصوري بالواقع، علاقة المتلفظ بالصور المنتقاة..) ، ثم لاستجلاء الآثار التلفظية والقيم الأكسيولوجية وإيحاءاتها، ثم للتوقف عند بعض الثوابت التي تحكمت في السيرورة الروائية خلال مطلع التسعينات.


تطلب التدليل على استقلالية البعد التحدثي داخل النظرية السيميائية ما يلي:


ا-مجاراة كريماص وفونتاني في تدارك نقائص التحليل المعجمي، بإنجاز دراسة " ممتدة" للمعجميات في خطابات أخرى، ثم بيان تجلياتها وتخطيبها في المتن الروائي. وهذا ما أسعف على إغناء النماذج التركيبية، وفهم تنيظم تمظهر معجمي-دلالي في كليته.


ب-إن الإقرار بوجود الحالة الكلامية حتم تصنيف الوحدات الكلامية في مقولات منطقية عامة ( موضوعاتية الكلام)، وإبراز التوجهات المتحكمة فيها، واستنتاج نماذج توقعية قابلة أن تعمم وتشغل على خطابات مختلفة للتأكد من تماسكها وصرامتها.


ج-تم تحديد طبيعة العلاقة التي تجمع بين المتلفظ والمتلفظ له، وتبيان الآثار التلفظية التي تكشف عن هوية المتكلم، وتصنفه داخل فئات سيميائية واجتماعية محددة ( القيم والإيحاءات الأكسيولوجية، اللغة الفردية، اللغات الاجتماعية، الملفوظات المشخصة بطريقة أدبية).


لقد استطاع محمد الداهي أن يستجمع من مختلف المصادر والمراجع السيميائية عدة مفاهيمية خاصة بسيميائية الكلام. ويمكن أن نجملها فيما يلي:


-الموضوع: إعادة بناء الكلام سيميائيا، الحالة الكلامية وقوتها.


-الجهة: الحمل على الاعتقاد ( الإقناع)


-البعد المعتمد: البعد الاستيثاقي( كسب الثقة)  والبعد التحققي ( منزلة الحقيقة داخل النص).


-الأدوار: الأدوار التحدثية.


-الخطاطة التحدثية المقننة: المقصدية، الحفظ أو العطاء، التلفظ، التقويم الأخلاقي.


يضع محمد الداهي هذه العدة المفاهمية لتمييز سيمائية الكلام عن سيميائية الأهواء. ويعتبر من باب الإجحاف الإلمام بالمفاهيم كلها. فهو لم يذكر إلا الأساسي منها للبرهنة على استقلالية البعد التحدثي داخل النظرية السميائية العامة. " إن البرهنة على استقلالية البعد الكلامي داخل النظرية السيميائية(المعيار)، استدعت معالجته بلغة واصفة ملائمة، إبراز منزلته مقارنة مع منزلتي العمل والهوى. وبعد التأكد من صحة الفرضيتين، نلاحظ أن مشروع سيميائية الكلام أعاد الاعتبار للقضايا الآتية: إدماج مفهوم المقام في التصور السيميائي، والمزاوجة بين الفهم ( تحليل المعنى) والتفسير( بناء المعنى)، وتوسيع مفهوم الذاتية ليشمل الآثار التلفظية، ومعالجة المجموعات الدالة بدلا من الاقتصار على العناصر الجزئية" ص267.


 


 



[1] - يقصد الباحث بالروايات الحافة أي ما يحف المتن الرئيس. فهو اعتمد على رواية ذات بصفها متنا رئيسا، ثم يمتحن مدى سداد المنهجية المعتمدة في الروايات الأخرى التي لا تقل أهمية عن ذات قيمة وقدرة على تشخيص الواقع.


 



     

Powered by: Arab Portal v2.2, Copyright© 2009