x
اخر ألاخبار    الحداثة واقع اجتماعي ومنهج نقدي : حوار أجراه محمد الداهي       Hommage à Mohammed Berrada : Mhamed Dahi       تقديم كتاب " التفاعل الفني والأدبي في الشعر الرقمي" ، د.محمد الداهي       النغمة المواكبة .. كتاب جماعي محكم عن المفكر والروائي عبدالله العروي       لكل بداية دهشتها، محمد الداهي       استراتيجيات الحوار بين التفاعل والإقصاء في كتاب " صورة الآنا والأخر في السرد" لمحمد الداهي       مغامرة الرواية تطلعا إلى المواطنة التخييلية- د. محمد الداهي       La fictionnalisation de soi dans le roman arabe Mhamed Dahi       من البرولتاريا إلى البرونتاريا رهانات التغيير الثقافي -د.محمد الداهي       تطلعات الملاحق الثقافية بالمغرب. د.محمد الداهي    
مقومات الكتابة الروائية في السيرة الذاتية /د.محمد غرناط

نتناول في هذه الدراسة أحد أبرز ركائز الكتابة الروائية و هو مكون السرد  انطلاقا من تودوروف الذي  يميز في دراسته للسرد بوصفه خطابا بين نمطين  يتعلقان بالكيفية التي يقدم بها السارد القصة ) الأحداث(، وهما: التمثيل أو العرض Représentation) (  والحكي Narration) (، ويرى أن هذين النمطين في السرد المعاصر لهما مصدران مختلفان هما:

القصة التاريخية (la chronique) والدراما (Le drame) " والقصة التاريخية هي حكي خالص، يكون فيه المؤلف مجرد شاهد ينقل الوقائع، والشخصيات لا تتكلم، والقواعد المتبعة في هذه الحالة هي قواعد الجنس التاريخي. وبالمقابل، فالقصة في الدراما لا تنقل، وإنما تجري أمام أعيننا ) حتى وإن كنا فقط نقرأ مسرحية( فليس هناك حكي، والسرد يوجد متضمنا في ردود أفعال الشخصيات"  والملاحظ أن النمط الثاني دعا عدد من الروائيين والنقاد المحدثين إلى اتباعه كرد فعل على الرواية التاريخية والواقعية التقليديتين. من أبرز هؤلاء الروائي والناقد الإنجليزي هنري جيمس الذي دعا إلى تبني أسلوب العرض المسرحي عن طريق تصوير الحدث وتجسيده في صور بدل تقريره. وهو في ذلك يستند إلى ما في الحوار المسرحي من قدرة على تشخيص الأحداث. إن وظيفته في المسرحية بناءة " ولكن المسرحية تعيش طبقا لقانون مختلف عن الرواية، بحيث أن كل ما هو صواب بالنسبة لها يبدو خطأ بالنسبة للصورة النثرية، وكل ما يوافق الصورة النثرية موجه بدوره مباشرة للإضرار بالمسرحية" . وهكذا فالصورة النثرية لا تعدو في استعمالها في الرواية أن تكون أكثر من مسرحة الحدث بالشكل الذي يتلاءم مع طبيعتها باعتبارها عملا نثريا يقوم على السرد والحوار وتمثل الحياة. وفي هذا السياق يقول جون هولبرن أن هـ.جيمس يصر " على التمثيل )  التصوير( النفسي للشخوص من خلال الطريقة الدرامية، وعلى تجنب الانتصار الفلسفي في الفن، وعلى غياب الفنان في عمله" وهذا يعني أن الطريقة التي تستند إلى الشكل المسرحي، لا تعني أن العرض )السرد المشهدي( يتم كما يقول بوريس ايخنباوم " بواسطة التركيز على الحوار، وإنما أيضا بواسطة الحظوة التي تعطى لتقديم الوقائع لا للحكي: إننا لا نتلقى الأفعال كأفعال محكية )الشعر الملحمي( وإنما كما لو كانت تتخلق أمامنا على الخشبة."  وهكذا نرى أن الاختلاف بين هذين النمطين من السرد يقوم على أساس أن نمط الحكي يستند إلى الأسلوب المباشر في نقل الأحداث والوقائع بطريقة تعتمد على مجرد نقل وتقرير ما جرى في مكان وزمان معينين ، وهي الوظيفة التي تقوم بها الأجناس التاريخية حيث يأخذ الراوي موقع الشاهد الذي يكتفي بالإخبار المباشر. بينما النمط الثاني يقوم على التمثيل أو العرض، أي على أسلوب عرض الأفعال والأقوال وتشخيصها في مشاهد سردية يتلقاها القارئ بطريقة يكون فيها كما لو أنه يشاهد عملا مسرحيا يجري أمام عينيه.
وإذا كانت الرواية الغربية قد عرفت استعمال هذين النمطين من السرد، بغض النظر عن القيمة الفنية لكليهما، نتساءل إلى أي حد استطاعت في " الطفولة" لعبد المجيد بنجلون استيعاب أسلوب السرد الروائي، سواء في شكله الأول أو في شكله الثاني، علما أن " في الطفولة" هي في الأصل سيرة ذاتية، وتتضمن قرائن مختلفة تؤكد ما يذهب إليه النقاد من أنها تنتمي إلى هذا الجنس الأدبي، على الرغم من صعوبة تحديد هذا الجنس تحديدا دقيقا، بحيث إذا وافقتنا إليزابيت براس " لا يمكن أن نعطي تعريفا مرنا ومجديا قبل التمييز الأولى بين الشكل، أو البنية المادية المحايثة للنص والوظيفة المنوطة بهذه البينة" ، وذلك في إطار الظروف التاريخية المحيطة بها، وخصوصيتها، والمواصفات الاجتماعية والأدبية واللغوية، والمتغيرات التي تميزها، وهو ما يمارس تأثيرا على التحولات التي تعرفها الأجناس الأدبية عامة في علاقتها بشروطها المادية الخاصة وبجمهور القراء. وإذا عدنا إلى التعريف الذي وضعه ف.لوجون، والى الميثاق الأتوبيوغرافي الذي صاغه، نلاحظ أن " في الطفولة" تتلاءم في إطارها العام مع ذلك. فهي مكتوبة بلغة نثرية، وهي حكي استرجاعي يعالج الحياة الفردية أو التاريخ الشخصي للمؤلف صاحب الاسم المثبت على غلاف الكتاب، أو بالأحرى جزء من هذا التاريخ. ويمكن التثبت من ذلك انطلاقا من العنوان: في الطفولة، الذي يوحي بمشروع الكتابة عن الذات الفردية، وإن لم يحمل الكتاب عنوانا فرعيا يعلن صراحة عن هذه الغاية. يضاف إلى ذلك عنصر آخر من عناصر الميثاق، وهو التطابق الذي " يتحدد انطلاقا من ثلاثة مصطلحات: المؤلف، والسارد، والشخصية. فالسارد والشخصية هما الوجهان اللذان يحيل عليهما داخل النص، ذات التلفظ، وذات الملفوظ، والمؤلف الذي يشخصه الاسم على حاشية النص هو إذن المرجع الذي تحيل عليه ذات التلفظ من خلال الميثاق الأتوبيوغرافي" . هذا التطابق يتحقق في " في الطفولة" بطريقة ظاهرة، إذ أن الاسم الذي تحمله الشخصية، وبالتالي السارد، هو اسم المؤلف، بحيث يتكرر الاسم العائلي مرات عديدة في الكتاب من قبيل" لم يكن يفوتني أن ألقي نظرة على الحروف السوداء المنقوشة على زجاج الباب، وكنت أعرف أنها اسم والدي مستر ت.بنجلون" . هذا، فضلا عن استعمال ضمير المتكلم ووجود فقرات تدل على أن موضوع الحكي هو حياة المؤلف .
وهنا لن نأخذ بالاعتبار مسألة التحقق من صدق المؤلف والتزامه بالحقيقة، بالرغم من أن قرائن من خارج النص تدعم فكرة التطابق ) حياة المؤلف(، ليس فحسب لأن ما يعنينا هو بناء النص ومستوى الوعي بتقنيات السرد الروائي، وإنما لأن الموضوع سيقودنا إلى مسائل هي أصلا محط خلاف. فقد أكد عدد من الباحثين على ضرورة أن تكون الأحداث حقيقية، واعتبروا هذا العنصر أساسيا في بناء السيرة الذاتية، وهو من القواعد الأساسية التي حددتها إليزابيت براس حيث تقول: " الأخبار والأحداث المروية بالنسبة للسيرة الذاتية تؤخذ من حيث كانت أو يجب أن تكون حقيقية" . فيما يرى باحثون آخرون أن السيرة الذاتية مهما يكن فإنها لن تكون دقيقة وصادقة خاصة إذا تعلق الأمر بمرحلة الطفولة. يقول أندريه موروا: " إن السيرة الذاتية عن مرحلة الطفولة تكاد تكون دائما متواضعة وزائفة، حتى ولو كان المؤلف مخلصا"  . غير أن هذا لا يلغي قيمة السيرة الذاتية كجنس أدبي، إذ أنها ليست فضاء مغلقا، بل هي فضاء مفتوح على عالم التخيل، خاصة في حالة اقتحام العوالم النفسية الداخلية مما" يهدد بزوال التمييز بين " الحدث" الأتوبيوغرافي و " الحكاية" الحقيقة موضوعيا" .
أما في ما يخص تقديم الأحداث في كتاب في الطفولة، فنلاحظ أن المؤلف استعمل الأسلوبين المذكورين في أن واحد، وسنبين ذلك من خلال مجموعة من المقاطع الحكائية. وقبل ذلك لا بد من الإشارة إلى مسألة كان لها تأثير خاص في هذا الاستعمال، وتتعلق بالأحداث التي تشكل موضوع في الطفولة. إن الأحداث التي يقدمها المؤلف/ السارد سواء التي تتعلق بتاريخه الشخصي )طفولته( أو الأحداث التي أوردها على هامش هذا التاريخ وكان لمعظمها صلة بحياته الخاصة، تنطلق زمنيا بعد الحرب العالمية الأولى، وتحديدا سنة 1919 )تاريخ ولادة المؤلف( وتنتهي عند سنة 1937 تاريخ سفر المؤلف إلى مصر لمتابعة دراسته الجامعية. هذه الفترة الزمنية ندركها من خلال إعلان هذين المؤشرين الزمنيين ما بين الفصل )1( والفصل (23)، وعند هذا الفصل نتعرف على الأحداث الأساسية التي رواها المؤلف/السارد، والتي استغرقت مدة زمنية تربو على ست عشرة سنة، وهي المدة التي قضاها ما بين انجلترا والمغرب، وبعدها سافر إلى مصر وهو في السادسة عشرة من عمره. ويمكن ترتيبها زمنيا ضمن الوحدات الأساسية التالية: مغادرة المغرب والاستقرار بانجلترا )مدينة منشستر(، التحاق الطفل بالمدرسة الإنجليزية، زيارة الطفل لبلده المغرب رفقة أسرته، الرجوع إلى انجلترا، مغادرة انجلترا والعودة إلى المغرب، الالتحاق بالمدرسة، السفر إلى مصر.
هذه الوحدات المرتبة ترتيبا تاريخيا، وردت في النص بنفس الترتيب الذي اتبع فيه المؤلف التسلسل التعاقبي الخطي للأحداث، ويتخلل هذه الوحدات الكبرى وحدات صغرى نذكر منها: موت والدة الطفل وتولي المربية شؤون حياته، التعرف على أسرة آل باترنوس، زيارة مدينة بلاك بول )مدينة الملاهي(، زيارة  الملك جورج الخامس إلى مدينة منشستر، حفلات عيد الميلاد، وفاة أخت الطفل )آمنة( ، ووقائع أخرى تتعلق بالحياة الدراسية في انجلترا وفي المغرب وغيرها.هذه الأحداث التي تتضمنها الفصول ما بين 1 و 23 ) من ص 7 إلى ص 141( هي التي تشكل محور تاريخ طفولته. فهل كان الكاتب يفكر في التوقف عند هذا الحد من استرجاع ماضيه وبنائه من جديد بناء فنيا؟ ما حدث، هو أنه استرسل في الكتابة، ولعل الحافز على ذلك هو إلقاء مزيد من الضوء على الأحداث التي رواها، وإضافة وقائع أخرى حدثت في نفس الفترة الزمنية. ونلاحظ أن هذه الإضافات أو " الاستطرادات" التي تبدأ من الفصل )24( وتنتهي عند الفصل )48( )من ص 142 إلى ص 279( تعكس رغبة المؤلف في الكتابة والتعلق بالطفولة وملء بعض الثغرات الزمنية ومواجهة النسيان، وهذه كلها عوامل دفعته إلى العودة مرة أخرى إلى الماضي والتنقيب في الذاكرة التي لم تتوقف عن الاشتغال على عناصر حكائية جديدة، ولهذا وردت هذه الاستطرادات في شكل لا يخضع لترتيب زمني تاريخي كما في الجزء الأول، بل عبارة عن استذكارات متفرقة، والرابط الذي يصل بينها هو أنها تنتمي إلى الفترة الزمنية التي تؤطر الأحداث الأساسية. ويؤكد ذلك استعماله عبارات مألوفة في السرد التقليدي مثل: ذات صباح، حدث ذات يوم، في يوم من الأيام.. ثم إن المؤلف وهو يقدم هذه الوقائع يشير إلى أنه إما يكررها أو كان أجل الحديث عن تفاصيلها. ومن الصنف الأول مثلا قوله: " ولقد وصفت لعب الورق فيما مضى من هذه الفصول عندما تحدثت عن سهرات منزلنا بانجلترا"  ومن الصنف الثاني قوله: " تركت في مكان ما من هذا الحديث ما سميته بالمدرسة العجيبة..."  وهذا يمكن اعتباره امتدادا لقول سابق جاء فيه: " لندع المدرسة العجيبة جانبا فإن في استطاعتنا أن ننتظر قليلا إلى أن نصل إليه" .
وفي ما يتعلق بتقديم هذه الأحداث، فقد تقدمت الإشارة إلى أن الكاتب جمع بين الأسلوبين معا، فتارة يستعمل أسلوب العرض ) التمثيلي( وتارة أخرى يستعمل أسلوب الحكي القائم على التقديم المباشر التقريري.
1- أسلوب العرض والتمثيل:
إن أبرز مظاهر كتاب " في الطفولة" هو أن المؤلف اعتمد في حالات معينة على استخدام العرض المبني على تشخيص الأحداث، وقد بينا أهمية هذا الأسلوب وقيمته في الكتابة الروائية منذ دعوة هـ.جيمس في هذا المجال إلى مسرحة الحدث الروائي. ولقد جسدت في " الطفولة" مستوى من الوعي بهذا الأسلوب تجلى على مستوى الشكل في بعض المقاطع الحكائية بانتهاج طريقة السرد التشخيصي في تقديم الأحداث والوقائع وأعمال الشخصيات وأقوالها. وإذا كان المؤلف بالفعل قد جمع بين النمطين المباشر وغير المباشر، فإن أجزاء كثيرة من الكتاب أفادت من أسلوب الرواية الحديث على صعيد الشكل، وهو أسلوب السرد الذي ينزع إلى تشخيص الأعمال والأقوال بدل الإخبار عنها. ويعكس الجزء الأول من " في الطفولة" كما حددناه )الفصول 1-23(  هذا الأسلوب بصورة جلية حيث خضع تقديم الأحداث في معظمه لهذا النمط من السرد، مما جعل من فصوله متواليات حكائية مروية بأسلوب يرتكز على إبراز حركة الشخصيات. ولهذا يغلب في هذه الفصول استعمال الأفعال الدالة على الحركة التي تظهر من خلال تتبع الأحداث ونموها بطريقة تشخيصية تقوم على استخدام أسلوب العرض في نقل الأعمال والأقوال.
ومن أبرز المشاهد الحكائية التي تعكس هذا الأسلوب، وهو من المقومات الأساسية في الكتابة الروائية، وتعكس إلى جانب ذلك وعي الكاتب بآليات وتقنيات الرواية في حدود معينة، المشاهد التي يتضمنها الفصل (7)، وهو الفصل الذي يتمحور حول زيارة مدينة بلاك بول في فصل الصيف. لقد نقل المؤلف/السارد أطوار هذه الزيارة منذ انطلاق القطار إلى الوصول إلى مدينة الملاهي )بلاك بول(، وصور الوقائع التي شهدتها هذه الزيارة بصورة تعتمد أسلوب العرض والتشخيص. يقول وهو منخرط في لعبة العجلة التي تدور في الفضاء: " ما زلت أتصور نفسي في مدينة الملاهي المتلألئة " بلاك بول"، فبينما أجد نفسي صاعدا إلى السماء كأنني سهم قد انطلق من قوس، إذا بي أنزل ثانية في سرعة جنونية، حتى إذا كدت ارتطم بالأرض ارتفعت مرة أخرى في اتجاه السماء وأنا ذاهل أحاول أن أسيطر على أعصابي الصغيرة، وأعقد العزم على أن لا أركب هذه اللعبة الجهنمية مرة أخرى، ولكن لا يكاد اليوم التالي يقبل حتى يعاودني الحنين إليها" . ويستمر على هذا المنوال في عرض لعبة أخرى تجري فوق بساط صغير جلس عليه وتكلف رجل بدفعه مما أحدث لدى الطفل إحساسا بالخوف لا يقل عن خوفه وهو يمارس لعبة العجلة، وذلك على الشكل التالي: " وأرفع عيني فإذا بالأعمدة والأخشاب والحواجز وقطع الحديد تتراقص من فوقي كما لو أصابني جنون، ولكنني لا أرتفع من جديد حين اقترب من الأرض هذه المرة، وإنما ينتهي السرداب فاندفع في الفضاء ولا أكاد أفيق حتى أجد نفسي أتدحرج فوق الرمال، فأنهض وقد أفلت مني زمام نفسي وأحاول أن أتبين عبثا ما حولي، إن العالم يتراقص، وأنا أيضا أتراقص، ثم أسقط مرة أخرى. لقد أصابني الدوار"
وتتوالى المشاهد بهذه الطريقة في نقل حركة الشخوص وانفعالاتها وأحاسيسها لدى أسرة الطفل وهم يواصلون زيارتهم: تسلق الجبل، الذهاب إلى شاطئ البحر مستعملا أسلوبا يقوم على استعمال أفعال دالة على الحركة وما يصاحبها من مواقف نفسية وردود أفعال متباينة.وعلى هذا النهج قدم المؤلف معظم مشاهد الجزء الأول من  في الطفولة، وبالأخص الفصل (7) الذي تزايد فيه الاهتمام بهذا الأسلوب، والفصل (9) الذي عرض فيه زيارة الملك جورج الخامس إلى منشستر وشخص حركة الشارع، وظهور الملك، ومروره وسط الجموع، وأعمال الفرق العسكرية، والفصل (10) الذي عرض فيه وقائع التحاق الطفل بالمدرسة الإنجليزية فنقل أعماله وهو يرتدي ثيابه، ويسير مع أبيه إلى المدرسة، ثم وهو يستقبل من طرف التلاميذ والمعلمة. وتنطبق هذه الملاحظات أيضا على الفصل (12) الذي يتناول وقائع عيد الميلاد، وبالأخص في المقطع الحكائي الذي حاول فيه الطفل مع أخته اكتشاف خرافة الهدايا التي ينقلها " شيخ الميلاد" .
إن ما تقدم يبرهن على حقيقة أساسية، وهي أن الكاتب، وهو يكتب أصلا سيرة ذاتية، ارتكز على أسلوب الرواية في عرض الأحداث، وأساسا أسلوب التشخيص الذي تبنته الرواية الحديثة وهي بصدد تجديد شكلها، وهو أسلوب يختلف عن أساليب الحكي التي تعتمدها الأجناس التاريخية والرواية التاريخية التقليدية المتأثرة بها، وكذلك أجناس أخرى كالمذكرات واليوميات الخاصة. غير أن هذا لا يعني على الرغم من هذا الوعي بأحد أبرز مكونات الكتابة الروائية، أن " في الطفولة"، وحتى هذا الجزء منها )الأول( تخلو من مقاطع حكائية استعمل فيها الكاتب أسلوبا تقريريا )الحكي( يقوم على نقل الأحداث بطريقة إخبارية مباشرة خاصة في الفصول الخمسة الأولى التي تتخللها أخبار منقولة بصورة مباشرة عن : الاستقرار بمدينة منشستر، التعرف على عالم جديد، تقديم أسرة آل باترنوس، زوار البيت من المغاربة لا تختلف كثيرا عما سنعرض له في النمط الثاني.
2-أسلوب الحكي المباشر
إلى جانب أسلوب السرد السابق الذكر، استعمل السارد أسلوب الحكي المباشر الذي يكتفي بنقل المعلومات وتقديمها على نمط أقرب إلى نمط أسلوب الأجناس التاريخية والمذكرات منه إلى نمط الأسلوب الروائي. وهذا الشكل من السرد نجده بصورة خاصة في الجزء الثاني من الكتاب )من الفصل 24 إلى الفصل 48(، والشواهد على ذلك كثيرة، ونكتفي بذكر بما يوضح لنا هذه الحقيقة. لقد أشرنا من قبل إلى أن هذا الجزء ورد على شكل ذكريات متفرقة، إما على شكل حكايات قصيرة مستقلة، أو تقارير عن أحداث، أو شخصيات. وهذه التقارير لا تشمل فقط الشخصيات والوقائع، ولكنها تشمل كذلك جانبا آخر يبعد " في الطفولة" عن مجال السرد الفني ، ويتجلى ذلك في تقارير مباشرة هي عبارة عن " أفكار" قدمها السارد بشكل مباشر ومستقل عن الحدث والشخصيات. أما الجانب الأول فنلاحظه في محاولة السارد التعريف بشخصيات ربط معها علاقات في طفولته. من أبرزها التقرير الذي قدمه في الفصل (39)، وهو عبارة عن " سيرة" مختصرة لأطوار حياة أخيه الأكبر منذ طفولته، ودخوله إلى المدرسة، ومغادرته لها، إلى علاقته بأفراد أسرته وأصدقائه من أبناء الفقراء المهمشين، وعلاقته بوالده وممارسته لأعمال التجارة معه، ثم استقلاله بنفسه. هذه الفترة الزمنية الطويلة أخبر عنها المؤلف/السارد في شكل تقرير مباشر مختصر لا يتجاوز أربع صفحات . ولا تختلف عن ذلك  الفصول (42) و (43) و (44) التي خصصها السارد لجامعة القرويين من حيث كونها جاءت بدورها على شكل تقارير عن الجامعة ودورها التاريخي في مجال العلم والمعرفة، والدروس التي تلقى بها، والأساتذة الذين يتولون إلقاء هذه الدروس مع ما كان لها من أثر على حياته الثقافية ووعيه. وإذا كانت هذه "التقارير" التي ترتكز على نقل معلومات وأخبار بشكل مباشر لا يخلو من ملامح الحكي، بل إن هناك مقاطع حكائية جاءت أكثر صلة بمجال التقديم الذي يتوخى إبلاغ الخبر في شكل فني، ولهذا كانت أقرب إلى " الصورة القصصية" كما في الفصل (36) المتعلق بزيارة حمامات " سيدي حرازم" من حيث تتابع الوحدات الحكائية وفق حبكة تقليدية: الاستعداد للزيارة، الوصول إلى الحمامات، نبأ وجود الملك محمد الخامس بالحمامات، الاختفاء عن المراقبين، رؤية الملك وهو يتوجه إلى حوض الماء ) الغدير(، ثم مغادرته للحوض وعودة الأطفال ) الخمسة( إلى المدينة. وتنطبق هذه الملاحظة على حادثة موت ابنة عم الطفل )زهور( التي وردت على شكل تقرير يخبر عن مرض الطفلة وموتها وحزن الطفل عليها بأسلوب أقرب إلى الصورة القصصية، يمتزج فيه الحدث بمشاعر الطفل. وبنفس الطريقة عرض موت جده في الفصل (37). وهذه الفصول، وفصول أخرى غيرها، تضمنت مشاهد عن أحداث أو شخصيات، يغلب عليها طابع الحكي الإخباري المباشر، مما يسمح بالقول، إنها دون الجزء الأول في تمثل طبيعة السرد الروائي الذي يشكل أحد أهم ركائز بناء الرواية.
وهناك ما يبعد أكثر هذا الجزء من " في الطفولة" وكذلك الجزء الأول منها عن تمثل أسلوب الرواية في السرد، بله عن أسلوب المذكرات وأشكال أخرى من الأدب الشخصي والأجناس التاريخية، ويتجلى ذلك في كون المؤلف يقحم تقارير تعرض بشكل أكثر مباشرة أفكاره وآراءه الخاصة في قضايا محددة، مما أعطاها طابعا " خطابيا" صرفا. من ذلك نجد مقاطع متفاوتة تتخلل بعض المشاهد الحكائية، مثل الحديث الذي يقارن فيه بين الطفل الإنجليزي والطفل المغربي في الفصل (20): "كان الطفل الإنجليزي كائنا تام التكوين من الناحية المادية والمعنوية معا، وكان الطفل المراكشي تاما من الناحية المادية فحسب، أما الناحية المعنوية فكانت خربة منهارة عفنة..."  ويكتسي هذا الأسلوب صفة أكثر خطابية في مواضع أخرى، كما نلاحظ في الفصل (35) الذي ورد في شكل أبعده كثيرا عن شكل الرواية، وعن شكل الصورة القصصية، فجاء أقرب إلى " المقالة الاجتماعية". وفي هذا الفصل قام المؤلف بعرض آرائه وأفكاره عن المرأة المغربية ووضعها الاجتماعي والعائلي . وهذا الأسلوب- كما ذكرنا- هو الذي يهيمن في الجزء الثاني من كتاب " في الطفولة" مما أدى إلى عدم تلاحم فصوله ومشاهده، غير أن ملامح السرد بادية فيه وتتخلل بعض مقاطعه، مما يعبر عن وعي معين بآليات السرد الروائي التي بدت بشكل أوضح في الجزء الأول. وبذلك فإن المؤلف عبر عن وعي أكثر نضجا في بناء الأحداث بمحاولة استعمال أسلوب يشخص الأحداث والوقائع ويعرضها كمشاهد مليئة بالحركة ضمن نسيج يجمع بين أطرافها.
ولابد من الإشارة هنا إلى عمل آخر ظهر بعد سنوات من كتاب في الطفولة، وكانت له هو أيضا مساهمته الفعالة في تطوير الوعي بأسلوب السرد، هذا العمل هو " سبعة أبواب" لعبد الكريم غلاب الذي يدرجه معظم النقاد في جنس السيرة الذاتية، أو سيرة ذاتية نشرت في قالب روائي، يقول حميد لحميداني: " وقد ظهرت في المغرب سيرتان نشرتا في قالب روائي، نشرت الأولى سنة (1957)  وهي " في الطفولة" لعبد المجيد بن جلون، ونشرت الثانية سنة (1965) وهي سبعة أبواب..."  و إذا كانت ( سبعة أبواب) لا تتوفر فيها القرائن الكافية على غرار" في الطفولة" لتصنيفها كسيرة ذاتية، فإن البعض اعتبرها في المقابل مذكرات، فالكلمة المكتوبة على ظهر الغلاف ) وهي من التقديم الذي كتبه محمد مندور( تفيد بأنها " ذكريات عاشها الكاتب فعلا..." والواقع أن " سبعة أبواب" المروية بضمير المتكلم، والتي اتخذت موضوعا لها التجربة الذاتية في فترة زمنية محددة، هي فترة الكفاح الوطني وتحديدا قبيل الاستقلال، احتفظت للذات الفردية بالمركز الرئيسي مما يجعلها أقرب إلى صنف السيرة الذاتية. وسواء اعتبرناها كذلك، أو اعتبرناها مذكرات، وهو أمر نستبعده ولا نستبعد إفادتها من هذا الجنس، فإنها استطاعت أن تحقق خطوة أوسع في ما يخص الوعي بطبيعة الكتابة الروائية. إن " في الطفولة" كما لاحظنا تحققت فيها درجة من الوعي، ولكن لازمتها بعض المظاهر، أهمها أنها ظلت موزعة بين أشكال من السرد تنتمي إلى أجناس مختلفة. وهذا " الانشطار" يمكن اعتباره أحد وجوه الإحساس الذي تحدث عنه عبد القادر الشاوي، وهو الإحساس الذي استشعره المؤلف " وهو يسترجع تجربة الحياة الفردية للتعبير عن التناقض والانشطار اللذين أصبحا جزءا من تكوينه الذاتي" ، ويتمثل في توزع الذات بين مجتمعين ولغتين وثقافتين، مما طبعها بعدم  الانسجام، الذي طبع " في الطفولة" أيضا. ولكنها مع ذلك، وهي تحاول بناء الذات فنيا، أن تحقق قدرا من الوعي بخصائص الجنس الروائي واستعمال أدواته في التعبير. ويبدو أن " سبعة أبواب" دفعت بهذا الوعي إلى مستوى أنضج وهو ما يتجسد في شكلها الذي اتخذ بناء أكثر تماسكا وانسجاما- وهذا ما يلاحظ بداية في المكون الذي نحن بصدده وهو مكون السرد.
إن " سبعة أبواب" بدورها تراوح فيها السرد بين العرض والحكي. غير أن الأسلوب الأول يهيمن على معظم المشاهد الحكائية، إذ ابتداء من الفصل (3) أخذ السرد يتجه نحو تشخيص أعمال وأقوال الشخوص. فمع دخول الفرقة المكلفة بتفتيش البيت، ثم تنفيذ أمر الاعتقال يشرع المؤلف/السارد في تشخيص حركة الشخصيات وبالأخص قائد الفرقة، وهو يقوم بعملية التفتيش رفقة زملائه: " أغريته بالتسلق إلى سدة متداعية لأمتحن جرأته...وتسلق، ولكنه كان خائفا خوف الأطفال حينما يقلدون الكبار في القيام بأعمال جريئة... وحاول أن يخفي خيبته حينما وجد حقائب فارغة. ولكن نشوة الظفر باصطياد رجل يعرفه انتصرت على كل خيباته"  على هذا المنوال يستمر السارد في عرض أفعال الشخوص وأحيانا ما يصاحبها من مشاعر، طوال الطريق، بعد عملية الاعتقال، من البيت إلى مركز الشرطة ينقل الوقائع بأسلوب تشخيصي دونما تقرير أو إخبار. وتتوالى عملية السرد بانتهاج أسلوب العرض التمثيلي في معظم المشاهد الموالية، كما في مركز الشرطة )الفصل 4 ) حيث يركز السارد على تشخيص الأفعال وعرضها على تنوعها: التدخين، شرب الشاي أو القهوة، الأصوات، الحديث، الضحك، بطريقة توحي بمشهد مسرحي تجري أحداثه على الخشبة. وكذلك بالنسبة لعميد الشرطة حيث ينقل بنفس الأسلوب )الفصل5( حركة خطواته ونظراته وأسلوبه في الحديث )الاستنطاق(، وكلها أفعال تبرز مركز الشخصية وقوتها والعنف الذي تمارسه، وبهذه الطريقة التي تعكس وعيا حقيقيا بهذا الأسلوب، يقدم السارد جزءا كبيرا من المشاهد التي يحرص فيها على عرض الأحداث والشخصيات على اختلاف مراكزها وأدوارها في النص. فإلى جانب الشخصيات المذكورة، يعرض الشخصيات الوطنية ومواقفها وأفكارها ومشاعرها، وبالأخص في حالتين أساسيتين: التعذيب الذي يتعرضون  له والحياة القاسية التي يعيشونها داخل السجن: ) الازدحام، قلة الطعام، صعوبة النوم..( ، يقول: " الشبان الذين صرعت أرجلهم سياط الشرطة انكمشوا في جلابيبهم وكأنهم، يحمون أنفسهم من عذاب يتوقعون... أفراد مبعثرون هنا وهناك، كلهم استسلموا لنوم عميق وقد أجهدهم تحقيق مفتشي الشرطة أو سكرة صاخبة في ليلة حمراء... وهناك في أقصى الركن تنبعث وشوشة من فم يذكر الله ويطلب إليه أن ينجيه من محنته."20. ويتخذ بهذه الصورة أسلوب التشخيص شكلا دراميا قويا تشكل ذات السارد أحد أبرز عناصره إذ من خلالها تمر هذه المشاهد، ومن خلالها تتحدد الرؤية إلى السجن والواقع والكفاح الوطني، وأيضا على المستوى النفسي كما يتجلى في مشهد زيارة زوجته: " أخطو عتبة الزنزانة في اضطراب لا تقوى ركبتاي على كتمانه مهما تجلدت، وأذرع الممر في غير عجلة ولكنني مهما أبطأت خيل إلي أنني أسرع..."21. ويستمر السرد بهذه الطريقة في نقل الأحداث وأعمال الشخوص وأفكارها، وفي حالات وأوضاع مختلفة، وهي طريقة تجسد وعيا وتمثلا ملحوظين لأسلوب السرد الروائي الذي تم توظيفه هنا في نقل تجربة خاصة وما أحاط بها من أحداث.
غير أنه، وعلى الرغم مما تحقق من تطور الوعي على هذا المستوى في " سبعة أبواب"، نجد أنها تتضمن بعض المظاهر التي تشدها إلى أجناس أخرى. في مقدمة هذه المظاهر أسلوب السرد التقريري الذي نصادفه في بعض المشاهد وبدرجات متفاوتة، ففي الفصل (1) يخبرنا السارد بطريقة مباشرة إخبارية تسجيلية أنه عرف السجن من قبل، لكن هذا لم يثنه عن النضال الوطني: " وقد دهشت حقا إذ مرت مناسبات مهمة لتصفية الاستقلاليين والمثقفين والعاملين، ولعزلهم خلف الأسوار العتيدة أو وراء الأسلاك الشائكة والمراكز المنعزلة. لكنني رغم الدهشة كنت أومن بأن دوري آت لا ريب فيه. وأن فتنة القائمين على شؤون التصفية لن تنسيهم استقلاليا وإن أخرت أجله عندهم إلى حين " 22.  وبهذا الأسلوب نقل السارد أحداثا تاريخية ونضالية بشكل يغلب عليه طابع الإخبار: الإيمان بأهمية النضال الوطني، صمود المناضلين الاستقلاليين، مؤامرة 20 غشت، استعداد الأمة للمواجهة، ترصد المستعمرين للوطنيين، على غرار ما نلاحظ في هذا المقطع الحكائي الذي يخبر فيه عما يتعرض له شباب المغرب: " عاد بي الفكر إلى المصير الذي يلقاه شباب هذه الأمة، ففي تلك اللحظات التي يسدل فيها الليل ستاره تنطلق زبانية الشرطة في مراكز التعذيب بجميع أنحاء المغرب ليمزقوا أجسام الشباب بسياطهم، وليتلفوا أعصابهم بالتيار الكهربائي، وليغمسوا رؤوسهم في المياه القذرة وليرتكبوا معهم آثاما يندى لها جبين الإنسانية"23.
ونجد مثل هذا الأسلوب في الفصل (12) حيث نقل السارد معلومات حول الإجراءات التي تقوم بها المحكمة في إصدار أحكامها على الوطنيين. وفي الفصل (16) نقل بطريقة إخبارية أحداث محاصرة الملك واعتقال مستشاريه وأعضاء الهيئة التي كانت تدبر معه أمر استقلال المغرب، بشكل تتخلله عبارات ذات طابع خطابي تحمل حماس المرحلة التي اعتقل فيها المؤلف. وتختفي حركة الشخصيات في الفصل (16) إذ يحل مكانها كلام السارد بأسلوب أقرب إلى أسلوب " المقالة"، حيث يتحدث في موضوع يتداخل فيه ما هو نفسي وذهني بما هو حكائي، في قالب رومانسي يتجلى في وصف السماء والشمس وربطهما بالحرية والتخلص من القيود، في ربع الساعة الذي يخرج فيه السجناء إلى الفسحة، وهي فضاء يمنح قدرا من الراحة على الرغم من ارتفاع أسواره. ويظهر الفصل (21)  من أكثر فصول " سبعة أبواب " مباشرة، حيث يقدم السارد شخصيات حراس السجن ويرصد أعمالهم وسلوكاتهم السلطوية، وهو بذلك من أكثر فصول النص قربا من المقالة التحليلية التي تخلو من الفعل الروائي ومن مقومات الكتابة الروائية وأساسا مكون السرد، وتنطبق نفس الملاحظة على نماذج بشرية أخرى تعرف عليها في السجن، حيث قدمها بطريقة إخبارية مباشرة وإن كانت لا تخلو من بعض ملامح السرد. إلى جانب هذا العنصر، نجد عنصرا آخر، يعتبر من الأسباب التي تقلل من القيمة الفنية لبناء النص روائيا، ويتمثل في التعليقات والتفسيرات التي يدرجها السارد/ المؤلف بصورة مباشرة على هامش الأحداث، كقوله مثلا في الفصل (6): " فصرير المفتاح شيء له مكان في نفس السجين، إنه لا يعني بالنسبة لهؤلاء أن سجينا سيحل ضيفا عليهم فحسب، ولكنه قد يعني أن أحدهم سيطلب لغرفة التعذيب، فحاسة التوقع قوية في نفس كل سجين"24 إن حركة المفتاح، حينما يهم الحارس بفتح الباب، تحيل على معاني ودلالات محددة. وقد قدمها السارد بناء على وجهة نظره، وليس انطلاقا من تصوير أعمال معينة أو مواقف شخوص تكشف عنها. ونلاحظ نفس الأسلوب في حديثه عن النور والظلمة في السجن: " والنور ضياء لا يستخرج قدرة الأبصار من العين فحسب، ولكنه يسطع في النفس فيحيل ظلمتها إلى بهاء وحول السجين تلتف كل عوامل الأظلام، فإذا أرخى الليل سدوله أغلق المتنفس الوحيد الذي يحيل ظلمة النفس إلى بهاء ورواء."25 ونجد في النص مقاطع كثيرة وردت على هذه الصورة26. والملاحظ أنها تخرج عن إطار السرد بمعناه الفني، وتأخذ طابعا يبعدها عن الشكل الروائي الذي يتوسل طرائق معينة في التعبير عن الأفكار والمواقف.
ونخلص مما تقدم إلى نتيجة أساسية، وهي  أن الوعي الفني  بأسلوب السرد الروائي باعتباره وسيلة لتقديم الأحداث تبلور بصورة جلية.. فالنصان معا، في الطفولة وسبعة أبواب، تمثلا أسلوب الرواية في إبلاغ المحكي الذي هو في الأصل مادة حكائية سير ذاتية صيغت في قالب روائي. وسنحاول في دراسة قادمة بإذن الله توسيع هذه الصورة من خلال مقاربة مكونات أخرى تجسد هذا الوعي
.

هوامش:*د. محمد غرناط كلية الآداب. عين الشق الدار البيضاء
1 - T.Todorov, les catégories du récit littéraire, Communication n° 8 Seuil 1966. p 144
2- هنري جيمس، درس بلزاك، ضمن كتاب : نظرية الرواية في الأدب الانجليزي الحديث. ص 146
3- جون هولبرن، نظرية الرواية البداية والاتجاه. ضمن كتاب : نظرية الرواية ) علاقة التعبير بالواقع( م.م ص 54
4- ب. ايخنباوم، حول نظرية النثر، ضمن كتاب: نظرية المنهج الشكلي )نصوص الشكلانيين الروس( ص 107
5- Elisabeth w. Bruss, l'autobiographie considérée comme acte littéraire, Poétique N° 1974.p 15
6- p. Le jeune, le pacte autobiographique op cit p.35
-7  في الطفولة. ص 39. أنظر أيضا الصفحات : 102-105-106-220.
8- - Elisabeth w. Bruss, l'autobiographie considérée comme acte littéraire,op cit. p 23
9- أندريه موروا،  فن التراجم والسير الذاتية. ص 100.
10- - Elisabeth w. Bruss l'autobiographie considérée comme acte littéraire,op cit p 26
11- في الطفولة. ص 197
12- نفسه. ص 240
13- نفسه، ص 136
14- نفسه، ص، 43-44
15- نفسه، ص، 44.
16- نفسه، ص، 115.
17-لحمداني حميد، الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي. ص131..
18- عبد القادر الشاوي. الكتابة والوجود ) السيرة الذاتية بالمغرب( ص153.
19- سبعة أبواب. ص 14
20 - نفسه، ص،48-49.
21 - نفسه، ص،131.
22 - نفسه، ص،10.
23- نفسه، ص،38.
24 - نفسه، ص،32
25- نفسه، ص،34.
26- أنظر الصفحات : 42-61-69-92-101-111 كنماذج علما أن النص يتضمن العديد من الحالات المماثلة.

الكاتب: محمد الداهي بتاريخ: الأحد 22-01-2012 09:01 أ•أˆأ‡أچأ‡  الزوار: 8792    التعليقات: 0

العناوين المشابهة
الموضوع القسم الكاتب الردود اخر مشاركة
الكتابة والأمل د. محمد الداهي الكتابة عن الــذات محمد الداهي 0 الأحد 24-04-2011
الكتابة عن الذات بوصفها ضربا من ... الكتابة عن الــذات محمد الداهي 0 السبت 27-11-2010
السيرة الذاتية والبيداغوجية الكتابة عن الــذات محمد الداهي 0 الخميس 17-06-2010
رقمنة الكتابة عن الذات-د.محمد الداهي الكتابة عن الــذات محمد الداهي 0 الأحد 06-06-2010
القراءة النقدية للسيرة الذاتية- قراءة ... الكتابة عن الــذات محمد الداهي 0 الأحد 06-06-2010